ربما تكن بعض الظواهر النفسية رواء لكثير من العطش الجمالي وأنت لا تعلم أنها كذلك وتعبير عن كوامن النفس المختزلة، فالقلق ظاهرة نفسية تجتاح من يكون في أرجوحة من أشياء يخاف من ألا تأتي بما يريد أو قد تأتي بما لا يريد أو هو بين أمرين لا يعلم أين يتجه إلى أحد منهما فيكون تخمينها في ظاهر الغيب:
قلق كأن الريح تحتي ...
ظاهرة القلق كما الريح الذي يطوّح بك غير مستقر إلى جهة ما، تلك صنعة المتنبي ليس لغيره! والريح هنا أشبه بأرجوحة الأستاذ عبدالله الخضير في ديوانه الشعري، (أرجوحة من قلق) وهو ديوان جميل وبسيط كصاحبه الأستاذ الذي هو بين الرومانسية التقليدية وبين التجديد.. بين الشعر الكلاسيكي المصرّع وبين الشعر الحر فهو في هذا جديدٌ لا يريد أن يكون تقليدياً خالصاً فكان التنوّع خياراً لافتاً في مجموعته الخفيفة الظل، لذيذة سريعة الهضم تخترق فواصل القلب وحواجز الفؤاد بسهام الحروف النافذة وببلاغة الحاذق الأرب هكذا هي في لذتها ولكنها موغلة في الإبهام غامضة شديدة الغموض متلفعة بالرمزية والوجودية كصاحبه سارتر حتى في إهدائه لا يبين! قلق متأرجح وكأنه يخفي شيئاً يريد منا أن نعرفه وسط عراك الأحجيات أو كأنه يبحث عن شيء فقده في زحمة الحياة لا يعرف ما هو؟!
الشعر هو ديوان قلب ووجدان هو مرآة وانعكاس طبيعي للشاعر هو فضفضة منظمة من داخل الفؤاد تحركها عاطفة لا تستطيع أن تكذب وخصوصاً في الحب هو بوح لأسرار مودعة تنم عن ثقافة مختزلة، (نعم) هو قلق مثل الفلاسفة القدماء وقلق كالمتصوّفة العرب الذين يبحرون في ملكوت الحب وأيّ حب؟! هو متأرجح لا يدري أين يرميه طريقه؟ لماذا هو كذلك؟ لأنه لا يعرف الإجابة عن تلك الأسئلة والتي جيّر بعضها باسم السندباد! لذلك نجد أن الشاعر يستخدم مفردة العنوان كرمزية دينية مبهمة في أغلب قصائده : (ابتهالات) لنهام قديم، (تهجد) في محراب الشعراء، (صلاة) عاشق باريسية، ضجيج في ليلة (خشوع)، أقدار صوفية، في مقام التجلي وما هي إلا دلالات لفظية تنبؤك عمَّا يدور داخل فلك القصيدة من رؤية تتأرجح به داخل أعماق النفس عن فلسفة هي عبارة عن تساؤلات لا يعرف لها إجابة وكأن القصيدة طلسم خفي يبحث في دورة الحياة عن ميتافيزيقيا نجهل طبيعتها فعند ضجيج في ليلة خشوع يقول:
يرفض الماضي
فكم من هائمٍ أمسى
كئيباً بين دمعات المنايا
وانتكاسات الوهم
أضحى غريقاً، يختفي
عند الحقول
وبين أمواج ويم
لم يبق منّي غير نصفي
غير هل وعسى ولا،
وبلى ولم!
ثم يمعن في الغموض بفلسفة المتصوّفة وهو قلق ويتجلّى ذلك من مفردة القصائد الأخرى: أسئلة أخرى لحبل سريّ، عشتار وأسئلة السندباد، قراءة موجزة في موت الوجود، ولعلي أوجز ذلك من خلال قصيدته من لوحات الماء المعلقة يقول:
سكبوا عليّ الماء حين أعلل
من يسأل النُّطفات كيف أشكّلُ؟
ثم يقول:
لم أنجرف للماء رغم صفائه
حتى اكتملتُ وقلتُ كيف أبللُ
المد يأخذني إلى صبواته
وأنا على شط الحقيقة أعزلُ
والجزر يروي سيرتي ونبوءتي
وأنا على باب الطفولة مُهمَلُ
يذكّرني الخضير في استحضار الأسطورة والفلسفة الوجودية بالبياتي الذي دائماً تشكل مفردة العنوان لديه فلسفة مجازية بما تحتمله القصيدة في بطنها من إيحاءات تكون هدفاً لما قد يصرح به مستقبلاً أقول ربما!
** **
- زياد بن حمد السبيت