الثقافية - محمد المرزوقي:
لما تزل «الما بعديات»، تثير جدلاً في المشهد النقدي، فيما تعكسه الكتابة النقدية، بدءًا بالقول، ووصولاً إلى قول على قول، فيما يعكس بعضها حالة من حالات «القول.. على تقول!»، ما يعكس اتجاهات عدة، في هذا السياق، منها ما يجعل «ما بعد» انتقاضًا مطلقًا على سابقه، وآخر يصفها بالتراكمية، فيما يقف آخرون موقف يتنازعه مد تلك الاتجاهات وجزرها.. فيما وصف الناقد الدكتور عبد الله الغذاميّ، «الما بعديات»، في حديثه لـ«الثقافية»، قائلاً: الما بعد ليست نقضًا للذي قبل على الإطلاق، فعندما نقول: ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الكلونيانية، فهذه تطوير للمفهوم السابق، ومحاولة لاستبعاد (السلبيات) التي وقعت فيها الحداثة - مثلاً – أو البنيوية، أو التي وقع فيها الفكر الاستعماري، الذي لو فصلنا عنه المعنى الاستعماري عن الفكر نفسه، لكان الفكر يترقىّ مثلاً، وكذا الحداثة، فلو فصلنا (الشمولية) التي كانت تدعيها، حينئذ لوجدنا الحداثة تستقيم، وفي البنيوية لو استبعدنا التركيز المجحف المبالغ على الشكل، لتحسن وضع البنيوية، إذن هنا سنجد أن ما بعد البنيوية هو إدخال للمنهجية البنيوية إلى أبعاد وانفتاحات أوسع. وأضاف الغذاميّ في هذا السياق: تبعًا لهذا، فالنقد الثقافي ينتمي إلى ما بعد البنيوية، فلا يعني أنه يلغيها، لتظل البنيوية أساسًا لهيكلته، إذ هي أشبه ما تكون بعظم البناء الذي لن يقوم بدونه، لكن تستطيع بعد العظم إما أن تكتفي بالبنية الصلبة التقليدية المعروفة، أو تدخل على البناء أبعاد وأشكال هندسية مختلفة، فمن يتصور إن ما بعد إلغاء لما قبل، فقد لا يكون قد دقق في المفاهيم، فإذا قلنا ما بعد الحداثة، فهي مضمنة داخل هذا المشروع، مع إضافات تفتح آفاقها، فما بعد البنيوية - مثلاً - هو فتح للبنيوية على آفاق آخر، تندمج وتتشكل معها، وكذا ما بعد الاستعمار، هو استخدام للغة المستعمرة - الإنجليزية - وفي الوقت ذاته تخلص من هيمنة المستعمر؛ وبالتالي فكل ما بعد هو: مرحلة انتقالية «نوعية»، تتجنب الأخطاء السابقة، وهي بناء على اللب الأول مصححًا ومنقحًا.
ونفى الغذاميّ أن تكون «الألسنية» شريكًا مسهمًا في الما بعديات، معللاً نفيه بقوله: عندما نأتي إلى النقد أصلاً، فهو علم «ألسني» بالضرورة، لأن النقد في أصله اشتغال على اللغة، وهو ضرب من علوم اللغة، فإذا لم يعتمد على المفهوم الألسني فهذا يعني أنه مجرد (انطباعات)، أو تأثرات غير منضبطة، ولكي ينضبط منهجيًا لا بد أن يأخذ بالألسنية كأساس، ثم يأخذ الجوانب الثقافية والمعرفية والفلسفية وغيرها، بوصفها علومًا كما نعلم تؤدى باللغة، وبالتالي فهي تنقد باللغة عن اللغة، فحوارنا هذا قائم على اللغة، وبنية الكلام بيننا هي بنية ألسنية، فإذا ما أردنا تحليل ما دار بيني وبينك في هذه المداخلة، فإننا سنحلله وفقًا لهذه اللغة، أي أن فعلنا فعل ألسني. كما نفى الغذاميّ أن يكون النقد الثقافي امتدادًا للنقد الأدبي، ضمن ما قد يتم تصوره بأن الثقافي قد يأتي ضمن سياق الما بعد «النقدي»، حيث قال الغذاميّ في سياق نفيه: قلت بـ«موت النقد الأدبي»، وبالتالي فالنقد الأدبي أشبع مهمته وأنهاها، فلم يعد قادرًا على أن يعيش هذا الزمن ومتغيراته، فالنقد الثقافي هو الذي يشتغل على الخطاب المتغير، الذي أحدث تغيرات جذرية، ويحتاج إلى تغيرات جذرية في الأدوات النقدية، وهو ما شرحته مفصلاً، في الفصل الثاني من كتابي «النقد الثقافي»، فالنقد الثقافي مرحلة أخرى (مختلفة)، عن النقد الأدبي، لأن النقد الأدبي يتضمن النقد الألسني، بينما النقد الألسني مع النقد الثقافي ينتمون لشجرة «الألسنية»، إلا أن هذه الشجرة متنوعة الغصون، مختلفة الامتدادات، فالنقد الثقافي بالضرورة هو نقد ألسني، لكنه يدخل في أبعاد تجر المبحث الألسني إلى مناطق لم يكن يدخل فيها سابقًا تحت مظلة النقد الأدبي، ما جعلنا مضطرين للتحرر من النقد الأدبي، لكي نطلق حركة النقد إلى آفاق كان يبتعد عنها، ليفوق اليومي، والمهمش، والما وراء، وآفاق النسقي، لذا قلت أن النقد الأدبي هو (تشريح) للنصوص، بينما الثقافي تشريح للأنساق، وهي نقلة نوعية ما بين الانتقال من النصوص إلى الأنساق، ما يجعل هذه النقلة محتاجة إلى أدوات متغيرة متجددة ونوعية.