د. عبدالحق عزوزي
شن «جهاديون» مؤخراً في مالي هجوماً على معسكر للجيش في وسط بلدة غيري التي تقع قرب الحدود مع موريتانيا مما أدى إلى مقتل عديد من الجنود الأبرياء. وأعلنت السلطات أن المهاجمين وصلوا إلى المعسكر عن طريق غابة وأغادو مستخدمين دراجات نارية وشاحنات صغيرة؛ وأحرق الجهاديون عدداً من الآليات واستولوا على أخرى. وأوضح أحد سكان المنطقة لوكالة الأنباء الفرنسية أن «الرصاص كان مثل المطر. فوجىء به العسكريون. جاء الجهاديون من شرق وجنوب الثكنة العسكرية. وأحرقوا آليات ورحلوا بأخرى. رأيت إرهابيين يضعان دراجتهما الناريتين في آلية للجيش ليرحلا بها». وسيطرت على شمال مالي في مارس / آذار 2012 جماعات إسلامية مرتبطة بتنظيم القاعدة. وقد طرد قسم كبير منها بفضل تدخل عسكري دولي أطلق في 2013 بمبادرة من فرنسا... ولكن منذ 2015 امتدت هجمات الإسلاميين إلى وسط مالي وجنوبها وحتى إلى دول الجوار خصوصًا بوركينا فاسو والنيجر. وتضاف هذه الهجمات إلى نزاعات داخلية أوقعت أكثر من 500 قتيل في صفوف المدنيين في وسط مالي في 2018 بحسب الأمم المتحدة.
مثل هاته الأخبار لا تتناقلها وسائل الإعلام الدولية، علمًا أن الكثير من الدواعش اليوم وعديد من الإرهابيين يجدون في بعض الدول الإفريقية ملاذًا لهم؛ إِذ الدول هناك ضعيفة، والمؤسسة الأمنية غير قادرة على حماية حدودها بتمكن، ولا على محاربة تغلغل الحركات الإرهابية العابرة للبلدان والقارات. وإذا كان التدين الصوفي الشعبي هو الحاضر منذ القدم في تلكم المجتمعات لعوامل تاريخية، فإن الاتجاهات المحافظة المتزمتة بدأت تطرق أبواب تلك الدول بطريقة مثيرة، إلى أن وصلتها الجماعات والحركات الإرهابية القادمة من الجزائر والصومال والنيجر، وهي اتجاهات لم تعهدها دول في السابق كالنيجر.
ولا يخفى على كل متتبع للأنظمة السياسية في هاته المنطقة الجغرافية الحساسة الممتدة بين ليبيا وتشاد ومالي والنيجر وبوركينا فاسو أنها أنظمة خاوية على عروشها لا من حيث التمثيلية السياسية ولا من حيث الإمكانات الاقتصادية ولا القدرة الشرائية للمواطنين ولا الحضور الأمني والعسكري الفعال في داخل المدن وعلى الحدود، لتبقى فريسة للتنظيمات الإرهابية التي بدأت تنظر إليها كمنطقة صالحة للاستيطان واستقطاب البشر وتنفيذ العمليات. وهناك ميزة تنعم بها هاته التنظيمات في هاته المناطق الشاسعة خلافًا لأخواتها في سوريا والعراق، أنها تستفيد من عائدات التجارة في المخدرات والأسلحة والبشر في إطار علاقات متداخلة وأخطبوطية مع منظمات الجريمة الدولية ومع قبائل وإثنيات كالطوارق في مالي أو تلك التي بجوار البحيرة الكبرى في تشاد.، وهاته التجارة تدر على التنظيمات الإرهابية كالقاعدة والمرابطين، التي تدعي أنها على نهج الملة الصحيحة وذات المأكل والمطعم والمشرب الحلال، حسب مكتب الأمم المتحدة لشؤون المخدرات والجريمة نحو أربعمائة مليون دولار في السنة، لتصبح تلك الدول منطلقًا آمنًا للمخدرات (كالكوكايين مثلاً) إلى أوروبا عبر غرب إفريقيا، ولتباع الأسلحة التي تأتي بحرًا إلى بنين وتوغو في كل دول المنطقة. هذا الوضع المؤلم الذي تعاني منه هاته الدول التي ما زالت ستعاني منه مستقبلاً بسبب تنامي هاته التنظيمات الإرهابية، ما كان ليتقوى لولا غياب الدولة في ليبيا.
ولم يمنع وجود القوات الفرنسية ذات الحضور الاستعماري القديم في المنطقة، وحضورها العسكري المكثف من الحيلولة دون مقدم وتطور الإرهاب، الذي سيحدث مع مرور الزمن شرخًا عظيمًا في كينونة ومستقبل الأجيال؛ فالقوات العسكرية الفرنسية هي متمركزة بقوة في مالي منذ تدخلها العسكري يوم 11 يناير 2013، وأعادت نشر نحو ثلاثة آلاف من قواتها في منطقة الساحل الإفريقي؛ وأهل الإستراتيجية والخبراء يعرفون غناء المنطقة وما تتوافر عليه من يوناريوم (فالنيجر تمد فرنسا بـ 35 في المائة من احتياجاتها من الطاقة النووية) وهاته الخيرات تسيل لعاب دول كبار كالولايات المتحدة الأمريكية والصين، لتستثمر الدول مصالحها الخاصة وتجعل منها منطقة داخلة في إطار أمنها الحيوي والاستراتيجي، وليدعي البعض منها أنها تحارب بجد جرثومة الإرهاب القادم من خارج الحدود أو المتولد من رحم الدول ولكن في الحقيقة شعوب المنطقة هي التي تؤدي فاتورة استنزاف خيرات المنطقة من الدول الغربية، وتؤدي ثمن نفاقها عندما لا تفكر إلا في مصالحها الخاصة، وهي التي تؤدي في الأخير ثمن وجود وتوالد الحركات الإرهابية.