أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: رد الغائب إلى المشاهد نوعاً من الأقيسة عند أهل القياس في الشريعة الإسلامية؛ ومذهبهم: أن هناك نوعاً غير منصوص عليه؛ فيقاس على المنصوص عليه؛ والمحقق عندي أن الأقيسة [انظر عن هذه الأقيسة كتابي (الكليات) لأبي البقاء الكفوي رحمه الله تعالى ص713- 716، و(المعجم الفلسفي) للدكتور جميل صليبا 2-207-211]؛ الكثيرة: منها ما يكشف عن حقيقة ذات برهان مستقل عن القياس كعدم الفارق المعتد به شرعاً أو عقلاً؛ فالبرهان هو الفارق غير المعتد به، والقياس فعل القائس، وليس هو برهاناً في نفسه؛ وقد يكشف عمل القائس باطلاً لا برهان له، أو أن ما عده بعضهم برهاناً ليس برهاناً في الواقع؛ لخلل في قياسه؛ ولهذا يكون القياس طريقةً ووسيلةً للكشف عن البرهان بمعرفة عدم فارق مؤثر في الحكم، أو وجود مؤثر فيه؛ والحكم تبع للبرهان الذي أنتجه القياس؛ إذن القياس ليس حجةً في نفسه؛ وإنما هو عمل استطلاعي أو تجريبي لمعرفة البرهان؛ والحجة إنما هي في البرهان الذي عرف بالقياس؛ وقد يعرف البرهان بغير قياس.. ولو كان القياس حجةً في نفسه: للزم أن لا ينتج عنه غير الحق.. بينما الأقيسة التي حكمت بحكم ما ظهر في جمهورها (وهي من الأقيسة الشرعية) البرهان على بطلان حكمها؛ فتبقى مشروعية القياس على أنها من وسائل اكتشاف البرهان العلمي يقيناً أو رجحاناً؛ فلا يكون حجةً في نفسه.. وحكمه حكم التجربة؛ فليست كل تجربة صحيحة النتيجة وإن كانت وسيلةً مشروعة؛ وإنما الصحة فيما أثبته برهان النتيجة.. ولو كانت كل تجربة حجةً في نفسها (أي في إجراءاتها العملية): للزم أن تنتج دائماً الصحة؛ وإنما أقول برهان التجربة: إما حق، وإما نفي باطل؛ ويا ليت أهل القياس قالوا بذلك؛ فحينئذ يزول الاختلاف المشحون بالجدل؛ ولكنهم جعلوا القياس حجةً في نفسه منتجاً لإثبات الحكم لا محالة، ولا سيما الحكم الشرعي.. مع أن بعض القياس قد ينفي برهانه الحكم.. فإن قال قائل: (العبرة بالقياس الصحيح المنتج إثبات الحكم الشرعي ولا بد): فالجواب: أنه ما اعتد بصواب نتيجته، وحكم له بالصحة: لم يحكم له إلا ببراهين تثبت الحكم بصحته.. وسواه من الأقيسة الباطلة نتائجها: إنما هي حكم من القياس بظنه، وليس حكماً ببرهان لائح؛ فالحكم للبرهان؛ إذن إنما يكون الحكم في إثبات صحة ذلك القياس؛ لكي نعرف نوع القياس الذي يندرج فيه قياس (رد الغائب للشاهد).
قال أبو عبدالرحمن: أكتفي بتلخيص كلام حبر من أحبار العلماء؛ وهو من بحور العلم ذوي التقوى والورع.. من كتاب واحد من كتبه الكثيرة، وذلك هو الإمام (ابن تيمية) رحمه الله تعالى، والأقوال التي يعزوها إلى أصحابها موثقة معلومة يرجع إليها الباحث في كتب وتراجم المعزو إليهم؛ فقد بين رحمه الله تعالى أن البرهان في اللغة أعم من القياس.. [انظر درأ تعارض العقل والنقل1-27].
قال أبو عبدالرحمن: ليست المسألة مسألة عموم وخصوص؛ وإنما هي مسألة نتيجة ووسيلة نتيجة.. إلا أنه يكون لكلامه وجه من جهة العلم الذي هو نتيجة القياس الصحيحة، أو الذي هو نتيجته الباطلة؛ فالمقارنة حينئذ بين عموم البرهان الحاصل بغير قياس، وخصوص البرهان المكتشف بالقياس؛ وليس كل ما أنتجه القائس بقياسه برهاناً.. كما أن عموم البرهان ليس في اللغة وحسب؛ بل ذلك حكم العقل الفطري بما عنده من ضرورات اكتسبها بالخبرة، وجبله الله على الإيمان بها؛ لأن الله خلق العقل ليدرك ما بداله من الأشياء على ما هي عليه؛ فكان من ضروراته الفطرية مثلاً: إحالة المحال، والعلم بأن العقل الاكتسابي ذا البديهيات: هو المأخوذ من حقائق الخبرة، ومن الخطاب الشرعي القطعي أو الرجحاني دلالةً وثبوتاً.. وقال رحمه الله تعالى عن الأمثال الشرعية: ((فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية سواء أكانت قياس شمول، أو [الصواب: أم] قياس تمثيل؛ ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين شمول؛ وهن القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية)) [درأ التعارض 1/29].
قال أبو عبدالرحمن: الأمثال من الخالق جل جلاله: شرع في نفسها؛ وهي منتجة المراد الشرعي يقيناً؛ لأنها صادرة عن ذي الكمال المطلق المنزه عن الخطأ؛ لحكمته وعلمه وقدرته؛ وهو سبحانه وتعالى المنزه عن الكذب؛ لثبوت صفات الكمال له بضرورة العقل وشهادة الشرع؛ فهو شرع معصوم؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.