د. عيد بن مسعود الجهني
المنصب بصلاحياته الإدارية والمالية الواسعة والبيروقراطية يمنح صاحبه السيطرة على أنشطة مقدرات الجهة الإدارية التي يتربع على قمة هرمها، وهذه الصلاحيات تغري بالفساد، خصوصاً مع قصور نظام المحاسبة والرقابتين السابقة واللاحقة على المصروفات الحكومية والتدقيق وغياب قوانين الثواب والعقاب، فغيابها يفتح الباب مشرعاً لإساءة استغلال السلطة الوظيفية.
ولذا تعددت صور الفساد الإداري والمالي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الرشوة والمحسوبية والاستيلاء على المال العام والاختلاس والتزوير.. الخ، هنا يبرز الظلم، الغلول، التعدي، القهر، الأنانية، وكلها كلمات تشمئز منها النفوس وتنقبض لها القلوب ولا يرضى بها أحد إلا إذا اسودت النفس ومات القلب وانطمست فيه الفطرة السوية التي خلق الله عليها الناس.
وعلى الجانب الآخر نجد أن أكره الكلمات وأشدها بغضاً إلى نفس سوية وأكرهها إلى قلب نقي هي كلمة الفساد، ذلك أنه يشمل كل تلك الكلمات البغيضة التي ذكرناها فهو -أي الفساد- يشمل كل صفة هي في قبحها وسوئها!!
والفساد بكل صنوفه يعد واحداً من أسوأ مظاهر الظلم، بل وأكثرها انتشاراً في هذا الزمان، وهو ظلم وهضم واضح لحقوق الناس، خصوصاً الفقراء منهم الذين يرون حقوقهم تغتصب جهاراً نهاراً أمام أعينهم وهم أعجز خلق الله عن كف يد المعتدي.
إذا الفساد والرشوة والمحسوبية تبدأ عندما يغلب بعض الأشخاص مصالحهم على مصالح الأمة، ولذا تحوّل الفساد إلى قضية تهدد مناحي الحياة كلها، على رغم أنه ما زال بالإمكان استئصاله أو على الأقل الحد منه إذا توافرت الإرادة القوية وضرب بيد من حديد على هؤلاء الذين يعطّلون مصالح الناس ويستولون على المال العام.
الشريعة الغراء لم تترك مفسدة إلا ونهت عنها، وقد تكرر لفظ الفساد ومشتقاته في أكثر من 50 موضعاً في القرآن الكريم بصيغ وأساليب مختلفة قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} الرعد 25، {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ} الشعراء 183، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الأعراف 85.
وفي السنة المطهرة وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الفساد عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلاً من الأسد على الصدقات يقال له ابن اللتبية فجاء، فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (ما بال العامل نبعثه على عملنا فيجيء فيقول: هذا أهدي لي وهذا لكم فهلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه فينظر هل تأتيه هدية أم لا، والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء سراً إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم، قال: اللهم هل بلغت) ثلاثاً، رواه البخاري.
وعندما علم بعض الصحابة -رضي الله عنهم- عقوبة أخذ المال الحرام سواء من المال العام أم من عامة الناس استعفوا من الولاية واعتذروا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قبولها لخوفهم -رغم قوة إيمانهم- أن يلحقهم بعض من الغلول فقبل النبي عذرهم ومنهم أبو مسعود الأنصاري الذي قال: (بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساعياً ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك ببعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال إذاً لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذاً، لا أكرهك) رواه أبو داود.
وتحت جناح الرأسمالية ظهر الفساد الإداري والمالي من رشاوى وعمولات، ولا يعني ذلك أن الفساد حكر على الدول الرأسمالية بل رفع رأسه في دول المنظومة الشيوعية التي انهارت ومتغلغل في كل المجتمعات والدول، ومنها الدول العربية.
لكن الفساد العولمي عندما يظهر في تلك الدول (المتقدمة) في معظم الأحوال تطفأ ناره وتستأصل رؤوسه، وأمثلة كثيرة قرأنا عنها وشاهدناها عبر وسائل الإعلام، وأطاحت برؤوس عدة، والسبب تطبيق أساليب صارمة وقانونية دقيقة مدعومة برقابة الإعلام والرأي العام.
اليوم أصبحت أمور الناس لا تقضى إلا برشوة أو محسوبية حتى أفتى بعض المفتين المتطاولين على الفتوى أن دافع الرشوة مضطر ولا بأس على مضطر اعتماداً على ما ورد في القرآن الكريم {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} البقرة 173.
الفساد طغى على مناحي الحياة كلها في الدول النامية والمتخلفة، والأسوأ أنه يستشري كل عام ويتمدد ويضرب بجذوره عميقاً في الأرض حتى أصبح عصياً على الاقتلاع، وأصبح البعض مجبورين على ابتلاع ثمرته المرة رغم أنوفهم، فالفاسدون قد غلظت قلوبهم وأصبحت قاسية وماتت ضمائرهم فما عادوا يرون الحقائق {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج 46.
إن الفاسدين أصبحوا فوق القوانين وكثيراً ما يحمي أحدهم نفسه بدخول (البرلمان)، أو (المجلس) أو (لجنة) ليسرق تحت حماية ما يسمى (بالحصانة) وهذا المحمي بالقانون وبالحصانة لا يكتفي بالسرقة وحده، بل يظل (يفرخ) عشرات بل مئات من المفسدين من أهله وأصهاره وأصدقائه الذين يسرقون محميين بسلطته.
الفقراء الذين لا يملكون مالاً يدفعونه لرشوة ولا ظهرا يسندهم لتقضى مصالحهم البسيطة تبقى معطلة وحقوقهم متعثرة، وأبناؤهم عاطلون عن العمل، ومن يملك قسطاً من المال أصبح عليه أن يضع يديه في جيبه اليمين والشمال ليدفع حتى تقضى حاجته في معظم ديارنا العربية.
القائد الإداري ومن دونه عليهم أن يدركوا أن المنصب الوظيفي هو تكليف لا تشريف، يجب على صاحبه بذل أقصى الجهد لأداء واجباته الوظيفية بكل وطنية ونزاهة ومعاملة جميع المواطنين على قدر سواء، لا تفريق بين مواطن وآخر، وتذليل كل الصعاب أمامهم لتقديم الخدمة التي يستحقونها.
وإذا تخلى الموظف عن هذا وسلك جادة الفساد وعطل متعمداً مصالح الناس فإنه يعد خائناً للأمانة قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} الأحزاب 72.
والله ولي التوفيق..،