زكية إبراهيم الحجي
انسكبت عبقرية الفشل على حاكم حكمَ دولةً وشعباً لثلاثة عقود ثقُلت بالخيبة والفقر والبؤس وشظف العيش وانحدار في جميع مجالات الحياة قبل أن يتحول ذلك إلى دعوات لإسقاط النظام يوم أن ارتفعت أسعار الخبز وشحَّ في الأسواق.
الدولة «السودان» أرض الخير النابضة بالحياة.. الزاخرة بمختلف الموارد والثروات الطبيعية من حيث النوعية والكمية والتعدد والجودة، أرض الشعب الطيب الصابر المسكون بالأمل والإرادة على مدى ثلاثين عاماً حتى باتت الثقافة السائدة لديهم متمثلة في اقتصاد الاكتفاء دون وجود طموحات لتكوين ثروات ترفع من مستوى معيشتهم وتجعلهم في سعة من العيش.
وكما يقال «الصبر مفتاح الفرج»، وإذا كان الصبر مراً فإن عاقبته حلاوةٌ لا مثيل لها، فهذا بالفعل ما شوهد خلال متابعة الانتفاضة الشعبية التي حدثت في السودان واستمرت إلى أن تحقق ما يصبو إليه الشعب السوداني الطيب، ألا وهو إسقاط رأس النظام الذي أفقرهم وسرق أموالهم وسلة غذائهم وحوَّل منزله إلى بنك خاص به يودع فيه الأموال المسروقة من شعبه، كما تابعنا ذلك في وسائل الإعلام بالصوت والصورة.
متابعتي للمشهد السوداني بمختلف مراحله أعاد إلى ذاكرتي تفاصيل رواية «وطني السودان» لعبقري الرواية العربية الأديب السوداني الراحل «الطيب صالح» رواية أشبه ما تكون برحلة جمعت التاريخ العريق للسودان بجغرافيا الأرض، وذلك في قالب ذي نكهة خاصة وبأسلوب عذب ينفذ إلى الوجدان والفكر.
رواية «وطني السودان» رواية شيقة.. غنية بتفاصيلها التي تروي تاريخ بلد وشعب يمثله رجال طيبون لا يستحقون المعاناة والاستغلال والقهر.. الطيب صالح الذي عاش خارج وطنه متنقلاً بين عدد من الدول إلى أن توفاه الله في أحد مستشفيات لندن رسم لوحة وأي لوحة في رواية «وطني السودان»، إنها لوحة الانتماء حيث سرد قائلاً «أن تنتمي إلى هذا الوطن البعيد المنال.. ذلك أمر عسير.. أن تكون سمعت زغاريد النساء في الأعراس ورأيت انعكاسات الضوء على وجه النيل وقت الشروق ووقت الغروب هو أمر عسير.. أن تشاهد طوابير الخبز والسكر تقف منذ منتصف الليل حتى طلوع الفجر فذلك هو الألم الذي يمزق قلب شعب يصارع من أجل لقمة العيش وأرخصها الخبز.. كم كان عبقري الرواية العربية موجوعاً ويحمل في قلبه وجع ومعاناة كل الشعب السوداني.. وطني السودان يطرح هموم شعب من معاناة وصراع.. آمال وآلام وأحلام..سيمفونية حزينة يعزفها الطيب صالح على أوتار الألم «وطني السودان».
ما زال الحال كما الحال والسودان هو السودان في معاناته، هكذا قال الطيب صالح في «وطني السودان» وذلك قبل أن يرحل عن الدنيا عام 2009.. رحل الطيب صالح قبل أن يرى أن الحال لم يعد هو الحال..رحل قبل أن يرى الانتفاضة الشعبية في وطنه غيرت الحال وأن التمرد على عنجهية الفقر وظلف العيش كانت هي الفاصل ليتغير الحال الموجع إلى الحال المشرق السعيد.. رحم الله الأديب السوداني الطيب صالح، وحفظ الله شعب السودان الذي لم تغيره السنون.