م. خالد إبراهيم الحجي
إن القوة الناعمة مصطلح صاغه البروفيسور جوزيف ناي في جامعة هارفارد الأمريكية في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين لوصف أهم محركات الجذب والاستهواء والتعبير عن قدرة الدول أو الشعوب على إقناع بعض الدول أو الشعوب الأخرى لقبول الخيارات الثقافية، والأفضليات الحضارية، وانتهاج الأولويات الدبلوماسية، وتبني المواقف السياسية، وذلك بوسائل الجذب والاستهواء والإغراء، ولا يدخل فيه إعطاء الأموال أو المعونات الاقتصادية، واستخدام أدوات السياسة الخارجية التقليدية المتمثلة في سياسة (الجزرة والعصا)، ولا يشمل القوة العسكرية التي تستخدم الشدة والعنف والسلاح في التهديد والضغط والإكراه والإجبار..
وتعطي كثير من الدول في وقتنا الحاضر القوة الناعمة اهتمامًا كبيرًا على أعلى مستوى، وتوظف إنجازاتها في المجالات الفكرية والثقافية والاقتصادية لتحقيق نفوذها بالجذب والإغراء، التي لا تقتصر على الجهود التي تبذلها الحكومات فحسب، وإنما تشمل جميع ما تقوم به الجهات المدنية الفاعلة، والمؤسسات والهيئات والمنظمات غير الحكومية، ابتداء من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التلفزيونية، ووسائل الإعلام الحديثة والسوشيال ميديا، مرورًا بالدوريات الرياضية الدولية إلى الجامعات المرموقة، ومراكز البحث والتطوير والابتكارات والاختراعات التي تنقل ثقافات وحضارات الدول.
ويتسع مفهوم القوة الناعمة ليشمل الماركات التجارية، بل يرى البعض أن المشروبات الغازية، مثل: البيبسي والكوكاكولا، وسلسلة مطاعم الوجبات السريعة، مثل: هرفي وكنتاكي وماكدونالدز، من مصادر القوة الناعمة الأمريكية..
والأمثلة الآتية توضح آثار القوة الناعمة الملموسة على الأرض التي غيّرت بعض الاتجاهات الفكرية والسياسية:
(1): إنَّ دعاة المذاهب الإسلامية الشاذة، والفِرق الضالة، والعقائد المنحرفة، وسادات الديانات الباطلة التي تخالف الدين الإسلامي، دين الوسطية والاعتدال والفطرة السليمة، الذي عليه أهل السنة والجماعة، يستخدمون جميع وسائل القوة الناعمة وطرقها المختلفة في نشر آرائهم المبتدعة ومعتقداتهم الخاطئة في إغراء البسطاء من الناس لتقبل قصصهم الكاذبة الموضوعة، والاقتناع ببدعهم التي استحدثوها لجذب أكبر عدد من الأتباع إليهم، وإشراكهم في طقوسهم وخرافاتهم وخزعبلاتهم للاستفادة من تبرعاتهم وأموالهم.
(2): سقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيتين أحد الأمثلة البارزة في التاريخ الحديث على دور القوة الناعمة، مثل: الاقتصاد المفتوح والديمقراطية وحرية الثقافة والفكر التي تجمعت وتشابكت وأثرت وأغرت شعب ألمانيا الشرقية؛ فاستاء من النظام الشيوعي التابع للاتحاد السوفييتي الحاكم؛ فرضخ ممثله في ألمانيا الشرقية؛ وأعلن أن قيود التنقل بين الألمانيتين قد رُفعت؛ فتوجه سكان ألمانيا الشرقية الذين حملوا معاول الهدم، وقادوا التراكتورات المجنزرة، وهدموا الجدار، وأزاحوا الأنقاض بأنفسهم؛ وسقط الجدار بطريقة سلمية، ولم يسقط بالضغط أو الإكراه أو بالقوة العسكرية.
(3): نجاح مانديلا في أن أصبح رئيسًا لحزب المؤتمر الإفريقي، ونجاحه في توظيف القوة الناعمة بطريقة سلمية، واستخدامها في المفاوضات مع الرئيس دي كليرك لإلغاء التفرقة العنصرية وإنهائها، وإقامة انتخابات متعددة الأعراق، وفوز حزبه؛ فأصبح رئيسًا للدولة، وشكل حكومة وحدة وطنية، حررت جنوب إفريقيا من استعمار الأقلية البيضاء أو التمييز العنصري (الآبارتايد)، ثم قام بتشكيل لجنة العفو عام 1995م التي وظفت دبلوماسية القوة الناعمة في تحقيق التسامح والمصالحة بين الضحايا والجناة، وتسامح الطرفان، وعفا كل منهما عن الأخطاء التي ارتكبها الطرف الآخر في حقه، دون إهدار حقوق ضحايا النظام السابق، ودون حرمان الطبقة الحاكمة السابقة من فرصة إعادة تأهيلها.
(4): الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي في أواخر القرن الماضي؛ إذ قامت أمريكا بتأسيس إذاعة صوت أمريكا (فويس أوف أمريكا) التي بثت إلى المواطنين السوفييت البرامج الدعائية التي تقدح في الشيوعية، وتنتقدها، وتُظهر عيوبها وأضرارها على الفرد والمجتمع، وتمدح الرأسمالية، وتوضح منافعها، وتبرز فوائدها؛ فأدت القوة الناعمة خلال الحرب الباردة - على رأي أكثر المحللين السياسيين - إلى التغيرات الاجتماعية، والضغوط السياسية، والاضطرابات الاقتصادية التي نتج منها في النهاية تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991م، وزوال الحزب الشيوعي السوفييتي.
الخلاصة: إن القوة الناعمة عنصر أساسي في قدرة الجذب والتأثير والإقناع، وتعطي نتائج أكثر مما تعطي سياسة العصا والجزرة، ومما تعطي سواها من الإكراه والإجبار والعنف.