د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
في تجربته - على مدى ربع قرنٍ تقريبًا 1996- 2019م - جاءت عتبةُ تآليفه الخمسةَ عشرَ - بدءًا بكتابه الأول «سفر في منفى الشمس» وامتدادًا بكتابه الأحدث: (المضادات الثقافية) - ممثلةً ذائقته الخاصة في «العنونة»، غيرَ معنيةٍ بعاملي التسويق والتشويق؛ فقد جاءت كما شاءها، «ولكلٍ وجهةٌ هو موليها».
** وفي عتبات العناوين مفارقاتٌ تستحق الدراسة؛ فلا تكاد محاضرةٌ أو ندوةٌ أو ملتقى تخلو من عباراتٍ متكررةٍ مثل: (بين الواقع والمأمول، بين الواقع والتطلع، بين الأمس واليوم، بين الماضي والحاضر، ونحوها مما يشابهها معنىً وقد يفترق لفظًا)، وإذ ليست جاذبةً فإنها تُرضي محبيها كي يروا فيها ما يُريحهم من عناء البحث في عَنْوناتٍ أكثرَ ملامسةً للموضوع واقترابًا من دوائره وحفزًا للمستقبِلِ كي يُصيخَ سمعًا ويصوغَ فهمًا.
** وسيعود إلى تجربةٍ قريبةٍ منه حين قدَّم كتاب الأستاذ» جيمس -يوسف- بد» باللغتين الإنجليزية ثم العربية: (العاشرة والنصف عصرًا؛ رحلة إنجليزي من عنيزة إلى مكة)؛ ففي عتبة: (من-إلى) ما يعطي دلالةً تفسر ما سبقها؛ حيث «الإنجليزي» و»وقت الأصيل» و»مدينةً مدنيةً» و»مدينة مقدسة»، وسيفهم قارئ العنوان أن المؤلِّف سكن هنا زمنًا وتبدلت هُويته الدينية وأنه في هزيع عمره المكتهل.
** كذا جاء العنوان شارحًا مضمونه، غير أن «من-إلى» كثرت حتى صارت لها دلالاتٌ ضبابية، وبخاصةٍ في كتب السير والمذكرات، وقد تُوحي -دون قصد- بتحجيم ما بعد: «مِن» وتعظيم ما يلي: «إلى» مع أنها رمزٌ للمسافة النفسية والزمنية آنذاك، وإذ لم يعد ملفتًا أن يرتحلَ واحدُنا من قريته في وهادٍ ريفية نحو ناطحة سحابٍ في عاصمةٍ مليونية وفي جواره ما يُضاهيها وربما يفوقها فإن تأثير العتبة العنوانية على مقروئية النص وقيمته هامشيةٌ وغيرُ جاذبة.
** ومع اليقين بأن لكلِّ شيخٍ طريقتَه فإن معظم التراثيين لم يقعوا في فخ العنونة بمباشرتهم موضوعاتهم ولو تكرر بحثها بالرغم مما نالها أو طالها من نقد، وجار المنفلوطي 1876-1924م حين كتب عن «خداع العناوين» ورأى أن أكذبها «بدائع الزهور» وأسخفها «جواهر الأدب» بالرغم من جمالهما الظاهري، ولم ير بين الشعراء أعذب اسمًا وأحطَّ شعرًا من «ابن مليك وابن النبيه والشاب الظريف»، كما تجيءُ العناوين متشابهة أحيانًا؛ كما في «الكامل والحيوان والكشكول وتحاسد العلماء..» في دلالة على معاناة اختيارها لدرجة توحي بما يُضاد معانيَها، وحين ألف الشيخ أحمد الصالح البسام 1307- 1403هـ كتابه: «الحلف الرباعي» فقد افتُرض أنه كتاب سياسي مع أنه تجميع للطائفَ وطرائفَ نثريةٍ وشعرية، وأشار باحثون إلى كتاب الشيخ أبي بكر الجزائري 1921- 2018م المعنون: « إلى التصوف يا عباد الله» بالرغم من أنه يحذر من التصوف؛» فإن كان غيرَ الإسلام فلا نريده وإن كان الإسلامَ فحسبُنا ما نتعبد الله به»، كما أورد.
** العنوانُ إنسان.