د. فوزية البكر
تبذل المملكة العربية السعودية جهوداً جبارة لإنجاح نظامها التعليمي الهائل والذي يجر خلفه حوالي نصف موظفي الدولة وأسرها وأطفالها وهي قد وفرت الميزانيات والبني التحتية والمعلمين والإداريين والخبراء والمؤتمرات والكتب والطرق الجديدة للتحوّل في التدريس والتعلم والتنظيم المدرسي كما تسعى وزارة التعليم جاهدة إلى تحسين نواتج التعلم عن طريق تغيير أساليب التقويم المتبعة سابقاً مع التأكيد على أهمية رفع ترتيب المملكة في الاختبارات العالمية المعروفة في العلوم والرياضيات أو اللغات، بل وحث الأهالي ليكونوا جزءاً من هذا النجاح إذ لأول مرة تأتينا كأهالي على جوالاتنا رسائل من الوزارة تؤكد أهمية أعداد الأبناء للمشاركة في الامتحانات العالمية.
وقد أتيح لي هذا الفصل تدريس مقرر جديد لطالبات الدكتوراه وهو التعليم الأساسي: أسسه ومناهجه والذي اكتشفت فيه مع طالباتي عالماً مليئاً بالاختلافات والمحاولات لإنجاح نظم التعليم الأساسية حول العالم مع ما في العالم من اختلافات سياسية وسكانية ومناخية واقتصادية وعولمية وكلها عوامل تؤثر بشكل كبير على كافة أنظمة التعليم.
فمن اليابان إلى إستونيا إلى الدنمارك وفنلندا والسويد إلى بعض بلدان الشرق مثل الأردن والجزائر والهند ومصر حيث تبقي العوامل الآنفة الذكر مؤثرة بشكل كبير لكن السؤال الحقيقي هو في نسبة التأثير: أي كيف استطاعت أمة مثل اليابان مثلاً تجاوز هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وتحمل فكرة عدم وجود أية موارد طبيعية في أراضيها لتصبح من أفضل أنظمة التعليم، بل وتحقق فوائض اقتصادية كبيرة في حين لا تتمكن مصر أو الهند من ذلك وهي الدول ذات التاريخ بل ومهد لأهم حضارات العالم؟.
لنراجع بعض الأسس والفلسفات والمفاهيم التي تقوم عليها بعض الأنظمة الناجحة في العالم إذ قد يساعدنا ذلك على فهم وتفكيك هذه الظاهرة المعقدة التي اسمها نظام التعليم ولنأخذ اليابان كنموذج:
- يصل عدد أيام العام الدراسي إلي 240 يوماً دراسياً في السنة مقسمة على ثلاثة فصول تتخللها إجازات قصيرة ومتعددة وأطولها إجازة الصيف.. (بالمقارنة: الفصل الدراسي لدينا يتكون من 15 أسبوعاً يذهب أوله للتهيئة وثلاثة منه للامتحانات ويبقي 12 أسبوع بواقع 60 يوماً دراسياً في الفصل الدراسي أي: 120 يوماً دراسياً فقط في السنة) (هنا لم أحسب الاحتفالات ولا يوم المطر وغيره من الظروف الطارئة).
- تصنف مناهج الرياضيات والعلوم في اليابان على أنها الأقسي في العالم والأكثر تطلبا لكن على الجميع اجتيازها لأن الإنجازات في اليابان لا تعتمد على الذكاء أو الوراثة، بل على العمل الجاد، كما أن نجاح الطالب أو فشله لا يعود عليه فقط بل يطال الخزي معلميه ووالديه.. (ما علاقة الأهالي بالمدارس لدينا..؟).
- للجميع فرصة متكافئة للحصول على تعليم جيد، لذا لا تتجاوز نسبة الالتحاق بالمدارس الخاصة 5 % ويحظي المعلمون باحترام اجتماعي كبير ورواتب جزلة لكنهم يعملون لأكثر من 12 ساعة في اليوم حتى إن المعلم أو المعلمة الجديدة لا يستطيعون الزواج في الثلاث سنوات الأولى لمشقة متطلبات التثبيت في العمل في التعليم والنجاح فيه ولطول ساعات العمل التي تمتد حتى التاسعة مساء (ودون تذمر!).
- تقع اليابان في أربعة جزر رئيسية إضافة إلى الآلاف من الجزر المتناثرة مما يجعل فكرة المركزية الإدارية شبه مستحيلة وهو ما مكن المقاطعات المختلفة من تطوير نفسها والتحرك في تقييم نتائج مدارسها دون الحاجة إلى العودة للسلطات المركزية في الوزارة.
- لكن يبقى الفيصل هو في مخزون القيم المميزة لهذا الشعب الصبور العامل فاحترام التعليم والعمل الجاد قيمة عالية الأهمية، لذا لا يتردد اليابانيون في دفع ضرائب كبيرة للحصول على مدارس متميزة للجميع ودون تمييز مهما بعدوا عن مناطق النفوذ في المدن الكبيرة كما يتم التأكيد على التربية الخلقية والمسؤولية الفردية عن كل ما يصدر من الإنسان مع دعم مفهوم المسؤولية الجماعية لكل فرد إذ يعمل النظام التعليمي على ترسيخ مفهوم العمل بكل قوة في عقل الطفل الياباني منذ المرحلة الابتدائية من خلال التركيز على إجابة السؤال الرئيس في حياة كل ياباني: كيف تستطيع اليابان أن تعيش في ظل انعدام الموارد الطبيعية؟. وتأتي الإجابة من خلال استيراد المواد الخام والتي يعيد العقل واليد اليابانية الماهرة والصبورة تصنيعها بجودة عالية تجعلها مطلوبة للتصدير في كل أنحاء العالم كما نري اليوم.
نعم يمكن للتعليم أن يصنع المعجزات لكن مع دعم منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية له.