عبدالوهاب الفايز
لمن اطلع سابقاً على ما كتبته حول الشركات الاستشارية، ليعذرني هذه المرة إذا يتجدد الحديث، فالهموم الوطنية تتجاذبنا وتقلقنا، وهذا القلق نضعه في سياق (القلق الموضوعي) الذي همه التواصل مع الأحداث والظواهر والمستجدات الوطنية بذهنية إيجابية، حتى لو كان التناول ناقد، وهذا دور من يضعون أنفسهم في إطار من يهمهم الشأن العام والذين من واجبها رفع حساسية التفاعل مع الواقع، إذا كان الواجب الوطني يستدعي ذلك.
بلادنا الآن في تحول إيجابي كبير، ومن حقها على كل من لديه القدرة الفكرية، الملتزمة بالمنهجية العلمية والأدبية، أن يقف عندما يستدعي الوقوف، حتى لو كان في هذا التوقف مشقة أو عدم تقدير وإعراض، فهذه من أعراض الدنيا الزائلة، والصالحات الباقيات خير عند ربك وأبقى. والوقوف الحذر الناقد لما تقوم به (الشركات الاستشارية الأجنبية) يقلق أصحاب الحلم والرأي والخبرة والتجربة في شؤوننا، فدخول الشركات في مطبخ القرار وصنع السياسات الوطنية له محاذيره التي نخشى أن تترتب عليها انحرافات في التنفيذ عالية المخاطر وكبيرة الثمن والتكلفة على أمننا الوطني.
فالذي يرى المساحة التي تتحرك فيها وتستمتع بها الشركات الاستشارية، ويرى الموارد البشرية التي توفرها من (حديثي التخرج والتجربة) ممن لا يمكن أن يوكل لهم في بلدانهم سوى (الأعمال المساندة)، الذي يرى هذا الوضع قد يعتقد أننا (بلد فقير بالموارد البشرية)، ولم نستثمر في أبنائنا، بينما واقعنا مغاير تماما، فنحن في بلد تبنى تعليم أبنائه في أفضل الجامعات العالمية منذ نصف قرن، وبنى مؤسسات التعليم العالي التي قدمت وتقدم المخرجات في التعليم والابحاث والمخترعات.
الآن لدينا جيل من المتقاعدين، من المدنيين والعسكريين، ممن تراكمت لديهم التجربة والمعرفة، ولكن مع الأسف.. أغلب هؤلاء يُمضي أوقاته في الاستراحات أو المقاهي، أو يستمتع بالمشي على أرصفه وميادين المدن العالمية! هؤلاء نفتقد استثمار تجربتهم ونضجهم الفكري بسبب ضعف قطاع الاستشارات والأبحاث، فالاستشارات قطاع وليد لم يتطور إلى صناعة ترفد القرار الوطني، ومع ارتفاع الإنفاق على الاستشارات في السنوات السابقة لم تستفد بيوت الخبرة الوطنية من هذا الإنفاق، فقد ذهبت حصته الكبرى لشركات الاستشارات العالمية التي (فازت بالجمل وما حمل!).
الذين يتقاعدون الآن هم من جيل السبعينيات، أي الجيل الذي قاد مرحلة قفزة التنمية الكبيرة لبلادنا، فهذا الجيل لديه الخبرة، ومرت به الدورات الاقتصادية من رواج وكساد، وشهدوا التقلبات السياسية وعدة حروب في المنطقة، وشاركوا في بناء المشروعات العملاقة، وأطلقوا البنية الأساسية للتعليم الجامعي، وقادوا قفزة القطاع المالي والبنوك، جيل عركته الحياة وهو رأسمال بلادنا الكبير الحقيقي، ويقدمون الدليل على نجاح القيادة السياسية في مشروع بناء الإنسان وتمكينه.
من قاد البناء في مجالات عديدة من هذا الجيل.. ليس لدينا مراكز أبحاث ولا شركات استشارات وطنية كبرى تستوعبهم رغم احتياجات المرحلة بالذات في قطاع الخدمات الذي يحتاج الإنتاج الفكري. الآن نحن في مرحلة تحول تحتاج الخبرة والتجربة لقيادة التحول، والسؤال: من يستثمر هؤلاء ويحمينا من مخاطر الشركات الاستشارية؟