د.فوزية أبو خالد
أمثلة على التنمر ومستهدفيه:
لا يكاد يخلو سجل الصحافة ولا منصات التواصل الاجتماعي من النقد تجاه أعضاء مجلس الشورى, على أدائهم على بطئهم على طبيعة الموضوعات التي يرى منتقدوهم أنها غالباً ما تنأى عن قلب الحدث ومعاناة المواطن، أحياناً قد يطال النقد شخوصهم بالطبع دون تحديد أمثلة أو إعطاء أسماء إلا فيما ندر، ولحلقات يُظن أنها الأضعف في السلسلة.
وبالمثل لا تكاد تخلو مواقع الإعلام الورقية والإلكترونية من حديث عن واقع الصحة، بما يبدو الموقف معه ليس نقداً موضوعياً، وذلك أمر مرغوب بل مطلوب بقدر ما يبدو نقمة لا تجد مجالاً لتفريغها إلا في المجالات وتجاه أشخاص.
وهنا يجري حديث بلا حرج أو تدقيق عن أطباء لا يعرفون بعد أن قضوا أكثر من نصف أعمارهم دراسة وبحثاً وتدريباً ميدانياً في جامعات ومستشفيات عالمية، ألف باء مهنة الطب، فالأطباء ليسوا موجودين في الطوارئ ولا في العيادات ولا في غرف العمليات.. الأطباء لا يعبأون بالمريض وإن كانوا قد قضوا جل يومهم الذي يقضيه الموظف العادي في المكاتب وقوفاً على أقدامهم وأعصابهم في مهامهم المهنية المضنية حق.. فالأطباء هم سبب تأخر المواعيد وتدني السعة الاستيعابية للمستشفيات من الأسرة والخدمات مقابل أعداد المرضى، والأطباء هم المتسببون في أي أعراض جانبية أو مضاعفات قد تحدث لمريض، بل هم سبب الحوادث المرورية التي تودي بحياة بعضهم في ريعان العمر، والتفاني في العمل لأنهم طوال الليل مناوبون وعليهم مواصلة العمل لنهاية دوام اليوم التالي. الأطباء سبب سبب كتابة غازي القصيبي لرواية العصفورية ورواية الزهايمر أيضاً.
أما الممرضون والممرضات فهم سبب لكآبة المرضى النفسية لأنهم لا يسمحون بالتعامل معهم كعمالة بائسة ويتوقعون التعامل معهم كجزء حيوي من الكادر الطبي. ويبقى الصيادلة ليسوا إلا باعة خمسة نجوم وعليهم أن يرخوا يدهم في صرف الأدوية حسب حاجة المريض وليس حسب تعليمات الطبيب فهم لا يصرفونها من «بيت أبوهم» بل من مصحات الحكومة الله يعزها.
ونفس الملامات تلاحق القضاة كما تلاحق الكادر الطبي السعودي على الأخص، فالقضاة هم المتزينون بالغتر المنشاة والمشالح الزري الذين لا يقيمون وزناً لأصحاب القضايا، وهم السبب عن تعطيل العدالة بشوفة النفس وتأجيل القضايا وتعطيل مصالح مصيرية.. وهذا ليس رأياً بالمعنى الموضوعي للكلمة بل مجموعة انطباعات لا يعتد بها ما لم يكون لها قرينة بل قرائن رقمية.
* * * *
والأدهى أن مثل هذا النقد التنمري يخرج القضايا من سياق مساءلتها الجذرية ويضعها في مسارات جانبية تخلق استعداءً اجتماعياً على ما يمكن أن يكون كبش الفداء أو ما يسمى بالإنجليزي Scapegoating، وبالتالي تحرف إمكانية الإصلاح والمحاسبة الحقيقية والفعلية لواقع الحال.. ولو طلب من أي من مستنمري الإعلام إعطاء نسبة مثبتة طبياً وشرعياً للأخطاء الطبية التي تكاد تصبح تهمة ملازمة للأطباء والممرضين فلن يسعفوك برقم واحد، لأنهم أصلاً لم يبنوا تلك التهمة على أي معلومات إحصائية، بل على انطباعية فضفاضة جرى استسهال نشرها في المجتمع دون الاستناد على أي مؤشر رقمي، لدرجة أن نسمع من يزعق بكل صفاقة في حفل تخرج ممرضين قائلاً: «الله يكفينا شرور أخطائكم الطبية».
وقد تفكرت في تلك الظاهرة بألم وبتأمل وبتساؤل ما الذي يجعل بعض الصحفيين من الهواة والمحترفين أيضاً، بل وبعض كتاب الأعمدة العتيدين يجترئون على جعل انطباعاتهم الفردية، إن لم أقل أخيلتهم، أحكاماً قاطعة ضد كوادر وطنية منتجة بل من أصعب كوادر الدراسة والعمل. ولا يكتفون بذلك بل يعملون على ترويج تلك الانطباعات على أنها حقائق دون دليل ميداني ولا برهان.
ومما يعزى له في اجتهادي، تفشي هذه الظاهرة التي أستعير لها مسمى «ظاهرة التنمر» على بعض المهن كالطب والقضاء وشخوص العاملين فيها هو غياب التعبير كمفهوم وكضمير وكتجربة حياتية يومية من ناحية وغياب فكرة القانون كمحدد ومنظم لشبكة العلاقات من ناحية أخرى، بالإضافة إلى غياب الحصانة الاعتبارية للمهنة، ناهيك عن غياب التفكير العلمي بما يشبه الغياب التام في قراءة الواقع، فيحل الحكم الذاتي على الأمور محل الحكم الموضوعي.
لست بطبيعة الحال ضد النقد للاجتماعي الإداري والسياسي والثقافي وسواه، فليس هناك عمل بشري فوق النقد، ولكن هناك شرطاً بسيطاً للنقد وهو شرط المصداقية التي لا تقوم دون بينة موضوعية، ولا تصح دون قرينة دالة.
غرد قبل فترة الدكتور محمد الجذلاني منتقداً ذلك النقد الجزاف الذي يوجه للقضاة عبر الصحافة أو وسائل التواصل الاجتماعي، والذي لا يستند إلى دليل ولا يقوم على بينة ولا يقدم مثالاً، ولا يحدد شخصاً بعينه مسؤولاً عن التقصير، بل يكتفى بتوزيع تهم هلامية على عموم العاملين في سلك القضاء من القضاة تحديداً.
وأرى أن هذه التغريدة تنطبق أيضاً على ما يكال للكادر الطبي من جزاف التهم ومن النقد اللاموضوعي.
وقد قدمت التغريدة اقتراحاً بديلاً، وهو إما تقديم نقد موضوعي يضع النقاط على الحروف ليصير بالإمكان فعلاً محاسبة التقصير أو تحمل تبعات النقد الجزاف بقوة القانون.. فالمتهم بريء إلى أن تثبت تهمته أو تنفى، ولن تثبت التهم أو تنفى دون محاكمة بميزان العدالة العمياء، وفي ظل قوانين يتساوى أمامها الجميع.
وأختم بنداء أن يكون لدينا ميثاق شرف لمهنة الصحافة ورقياً وإلكترونياً ولكتابة الرأي يحتكم إلى المروءة والضمير وركن الإحسان والمحاسبة القانونية وإلى تفكير علمي في نقد الواقع نقداً موضوعياً لا يجري به توسل أوسمة شخصية أو تصيد لمناصب أو لمجرد لفت انتباه وتجميع أتباع. والسلام ختام