د. حسن بن فهد الهويمل
التاريخ يَكتبُ مايُقال، وما يُفعل، لم تُرفع أقلامه، ولم تجف صحفه، ومتلقيه الآتي بعد أمة، لن يتردد في تحميل كل فعل، أو قول على صاحبه، الذي يجازى على مثقال الذرة من الخير، أو الشر.
ونحن في حاضرنا المدان بكل المقاييس نتسلل لواذاً، خشية المساءلة. وكلُّ ذي لسان، وشفتين يحاول التخلي عن المسؤولية، والإلقاء بكل ظلالها على غيره، من دول، أو منظمات، أو أحزاب، أو طوائف، أو أفراد.
لا نريد استنزاف إمكانياتنا بتبادل الاتهامات، واللجوء إلى الإسقاطات، ولا نود فتح الملفات، والنبش في عفن الماضي:- {عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف}.
العاقل من يوفر جهده، ووقته، وماله لما هو قائم، لا لما هو نائم. وكل الناس خطاؤون، و[مَنْ نُوقِش الحساب عُذِّب].
الاشتغال بمقترفات الماضي، تفويت لفرص الحاضر. لا نطالب بحرق الملفات:- الحقيقية منها، والوهمية. كما لا نريد طمرها في التراب، وإنما نريد رفعها إلى حين تتهيأ الظروف المواتية لفتحها، متى لم يترتب على رفعها تبرئة لمذنب، أو تفويت لفرصة، أو تعطيل لمصلحة.
العقلاء المجربون أمام خيارات يأخذون بأيسرها، وألصقها بالمقاصد السديدة. خلاص الأمة بالخلوص من الأهواء، والشهوات، وحب الذوات. ونجاتها في تغليب الإيثار على الأثرة، والجنوح إلى السلام، وتعظيم الدماء، والاستشارة، والاستخارة، وتمكين الرجال الأكفاء من المسؤوليات المناسبة لهم.
فساد الأحوال في إسناد الأمور إلى غير أهلها، و[النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً ]، والمثل العامي يقول:- [بَعِيرُ الظَّهْرِ مَعْدُوم]. أي الصالح للركوب.
المتداول في التاريخ الشفهي أن [الملك عبدالعزيز] -رحمه الله- وكل إلى أحد معتمديه البحث عن [قاضي] لأحد الجهات من بلاده، ومرت شهور، دون تلقي الإجابة، فسأله:-
- لماذا لم تختر لنا من يتولى القضاء؟
فقال:-
- إن وجدت عالما، لم أجده عاقلاً، وإن وحدته عاقلاً، لم أجده عالماً.
وتلك حقيقة لاتغيب عن ذاكرة المسؤول، ولكنه لا يبديها لمن حول.
مشرقنا تكمن مشاكله فيمن اختطف السلطة بقوة السلاح، ولا حق الكفاءات الوطنية المتعددة الإمكانيات، يقرضها ذات اليمين، وذات الشمال بالسجن، أو القتل، أو التشريد.
مشاكله تكمن في [اللعب السياسية الكبرى]، التي فرقت كلمته، ومزقت شمله، وغيرت تركيباته السكانية، وأحيت الطوائف، والأحزاب، والأقليات، وجماعات الضغط، وجعلت بأس الجميع بينهم شديد.
مشاكله في المتنخوبين، والنخب من علماء، ومفكرين، وساسة، وإعلاميين، ممن يَتَولَّون تشكيل الأنساق الثقافية للشعوب العربية بآراء، ورؤى، وتصورات تشوبها الشبه.
فَمِن المؤكد أنهم ليسوا على قلب رجل واحد، واختلافهم المشروع، لا يحسنون إدارته.
همهم تبادل الاتهامات، ومصادرة الحقوق، والأثرة، واحتكار الحقائق، والبحث عن الانتصار، وتصفية الخصم: سمعةً، وجسداً.
ودعك من ذوي الأفكار الشاذة، والعقائد المنحرفة، والمتواطئين مع أعداء العقيدة، والوطن.
قادة الفكر ليسوا سواء في مواقفهم، ونزاهتهم، وبعد نظرهم، وشفقتهم على أمتهم.
مشاكل أمتنا بدأت منذ أن اقتحم [نابليون] أرض الكنانة بأربعمائة سفينة تحمل العلماء، والساسة، والمفكرين، والأدباء، والممثلين، والمطربين لتغيير التركيبة الذهنية للإنسان العربي، وصبغه بصبغة غربية خالصة.
مشاكل أمتنا في تمزيق الأرض من خلال [اتفاقية سايكس بيكو]، ومن تمزيق الأفكار من خلال الغزو الفكري عبر [المبشرين]، و[المستشرقين]، و[المستغربين].
مشاكل أمتنا بدأت عندما بدأ التواصل المعرفي، والثقافي مع الغرب دون تكافؤ، ودون معرفة بجذور الصراع الحضاري.
مشاكل أمتنا امتدت وتجذرت حين قطعنا صلتنا بتراثنا، واستقبلنا الغرب ببلاهة، وتبعية، وجهل.
لقد وفد إلى جامعات أمتنا في وقت مبكر مُسْتشرقون للتعليم، والتنظيم، والإدارة، فكان أن حرضوا على ابتعاث شباب مثاليين إلى جامعات الغرب، وهم لا يدركون اللعب، ولا يحيطون بالغزو، ولا يؤمنون بالتآمر، ولا يستحضرون تحذير خالق كل شيء:- {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى}.
مشاكل أمتنا بدأت، وتجذرت حين ذرت كتب الضرار على يد [طه حسين] في كتابيه [الأدب الجاهلي]، و[مستقبل الثقافة في مصر]. وعلى يد [مصطفى عبدالرازق] في كتابه [الإسلام وأصول الحكم]، وعلى يد [قاسم أمين] في كتابه [تحرير المرأة]،
وعلى روايات [جورجي زيدان] [الروايات الإسلامية] وما هي إلا روايات [فرويدية]. وعلى يد [الأنسنة] التي نزعت القداسة عن المقدس. وجرَّأت التوافه على الثوابت.
وعلى مشاهير الروائيين الذين تعمدوا العهر، والكفر في سردياتهم.
مشاكل أمتنا تتناسل كما تتناسل الحشرات على جوانب المستنقعات.
لا بد من مصلحين، مقتديرين يعيدون صياغة الذهنيات الملوثة. وليس شرطاً أن يتشح المصلح برادء المشيخة. نريده عاقلاً، واعياً، قارئاً، مجرباً يؤثر الحق، ولا يحفل بالانتصار. نريده رحب الصدر، قابلاً للتعدد، مستوعباً للأطياف، مؤثراً، لا مستأثراً.
انقلابات [الربيع العربي] عملية ذكية، غيرُ صادقة، ولا زكية، هدفها تخلية المواقع من الكفاءات، وتقسيم المقسم: أرضاً، وإنساناً. فكراً، وعقيدة.
لقد تعددت الطوائف، وتنوعت الأحزاب، وتنازعت الخطابات:-
- خطاب إسلامي حزبي.
- خطاب قومي متعنصر.
- خطاب قُطْري منغلق.
- خطاب علماني مستغرب.
- خطاب فكري مادي.
- خطاب طائفي محتكر.
وأصبح كل ناطق أمةً وحده، يبحث عن موطئ قدم ليقيم فيها كياناً يستخف بالدماء، ويعشق الدمار، ويستنبتُ الضغائن، والأحقاد.
كان مشرقنا ولما يزل مسرحاً للتمثيل، لا ميداناً للبناء، والأداء.
نجاتنا في الاستجابة لأمر الله:- {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.