أ.د.عثمان بن صالح العامر
في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأمَّرنّ على اثنين، ولا تَولَّينَّ مال يتيم) رواه مسلم. وفي رواية قال: قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها) رواه مسلم.
لا أحد يقدح -لا سمح الله- في ديانة أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه ولا شجاعته وإقدامه، فهو صحابي جليل من خير القرون على الإطلاق بل من السابقين إلى الإسلام، قيل رابع أو خامس من دخل في الإسلام، وأحد الذين جهروا بهذا الدين العظيم في مكة قبل الهجرة النبوية. قال عنه الذهبي في ترجمته له في كتابه «سير أعلام النبلاء»: «كان رأسًا في الزُهد، والصدق، والعلم والعمل، قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حِدّةٍ فيه» بل روى الترمذي روى الترمذي (3801) وابن ماجة (156) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ، وَلَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ). وصححه الألباني في «صحيح الترمذي». ومع ذلك كله يقول له عليه الصلاة والسلام «إنك ضعيف»، وكأن المناصب القيادية لا يكفي التدين لشغلها بل لها شروط ومتطلبات أخرى لا تقل أهمية وإن كانت هي في الأساس من الدين إلا أنها عند إعمال النظر فيها قاسم حضاري مشترك بين البشرية جمعاء، ولعل من أقوى الأدلة التي يمكن أن نسوقها لندلل على كونها موجودة في جنس الإنسان لمنازع وأسباب عدة وربما تكون شخصية، ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنهما من أنها قالت عن الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة التي تعد أخطر عملية سرية تمت في تاريخ الإسلام: (...واستأجر صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، ودفعا إليه راحلتهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة...).
ولما قدم رجال من الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قد أعياني أهل الكوفة، إن وليت عليهم التقي ضعفوه، وإن وليت عليهم القوي فجروه، فقال له المغيرة الثقفي: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقواه وعليك ضعفه، والقوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره – في حال كان فجوره غير متعدٍ، ولا يلحق ضرراً بالنسيج المجتمعي العام، ولا يدعو لهذا الفجور ويسوق، وليس صاحب شبه، ومناهج فاسدة، وله انتماءات لأحزاب وتيارات معادية، وفي ولائه دخل وشك لا سمح الله -، فقال عمر: صدقت، فأنت القوي الفاجر، فاخرج إليهم) فلم يزل عليهم أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصدراً من أيام عثمان، وأيام معاوية حتى مات.
وقال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية: دلني على قوم من القراء أولهم، فقال له: القراء ضربان: ضرب يعملون للآخرة، ولا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا، فما ظنك بهم إذا أمكنتهم منها؟ - ولا يمكن أن تكون هذه قاعدة تتسم بالعمومية والشمول في نظري-، قال: وما أصنع؟، قال: عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولّهم).
مثل ذلك -ارتباط تسنم المناصب القيادية بالتدين في مفهومه المجتمعي اليوم- لا يستلزم أن تسند المناصب القيادية للأذكياء وأصحاب العقول المتقدة فحسب بل قد يرى ولي الأمر ومتخذ القرار أن هذا المتميز بعقله قد يضر بالعامة والبسطاء ومن سيتولى عليهم من موظفين وأكاديميين ومعلمين وعسكريين وطلاب و...، ( يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزل زياد بن أبي سفيان، فقال زياد: أعن عجز عزلتني يا أمير المؤمنين أم عن خيانة؟، فقال: لا عن ذاك ولا هذا، ولكن كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك).
لقد حدد معاوية بن أبي سفيان معايير اختيار القائد الذي تسند لها المناصب الإدارية الهامة فقال: (...لا ينبغي أن يكون فيه خمس خصال:
1- لا ينبغي أن يكون كذاباً...
2- ولا ينبغي أن يكون بخيلاً...
3- ولا ينبغي أن يكون حديداً...
4- ولا ينبغي أن يكون حسوداً...
5- ولا ينبغي أن يكون جباناً...
ولما أحضر الرشيد رجلاً ليوليه القضاء، فقال له: إني لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه، فقال الرشيد: فيك ثلاث خلال:
1- لك شرف، والشرف يمنع صاحبه منى الدناءة.
2- ولك حلم يمنعك من العجلة، ومن لم يعجل قل خطؤه.
3- وأنت رجل تشاور في أمرك، ومن شاور كثر صوابه...).
دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.