د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الكثير منا لا يجد تفسيرًا لوجود أزمة سكن خانقة في بلد كالمملكة؛ إذ إن جميع أساسيات توفير السكن الموضوعية متوافرة: أراض شاسعة، وفرة مالية، وشركات حديد وأسمنت ومواد بناء تفوق الحاجة، وبعضها دخل مرحلة مقلقة من الركود لتراجع مستوى الإنشاءات عن الأعوام السابقة بشكل كبير.
ولا يوجد مسؤول أو مواطن لم يتكلم، أو فلنقل نظر لهذه الأزمة أو حاول تشخيصها.
وأزمة الإسكان مثلها مثل الأزمات الاقتصادية الأخرى، كالبطالة، أو التضخم، بالرغم من عدم تطابق عوامل المقارنة بشكل تام، لا تكون عادة وليدة الساعة، بل تطورت لعقود عدة، وتُركت بدون علاج ناجع حتى وصلت لمرحلة يصعب معها معالجتها؛ فهي كالمرض المستعصي الذي كان علاجه سهلاً في البداية، وصعبًا وليس مستحيلاً بعد استفحاله وتطوره. وقد وجد المسؤولون أنفسهم بين المطرقة والسندان حيال هذه الأزمة. فلو استمر بنك العقار في الإقراض بالأسلوب السابق ذاته لتفاقم المرض على شكل تضخم كبير في قيمة الأراضي والعقارات، وفي قيمة الإنشاءات؛ وبالتالي التضخم العام في جزء مهم من الاقتصاد. ولو أوقف الاقتراض لتفاقمت الأزمة مع قدوم أعداد كبيرة من الأجيال الشابة المحتاجة للسكن نتيجة للزيادة السكانية المطردة.
ويوجد ارتباط كبير على شكل تناسب طردي بين مستوى الرواتب، ومعدل البطالة، وانتعاش قطاعات الإسكان؛ لذا مع تزايد أعداد الشباب المؤهل، ليس فقط لسوق العمل ولكن للبناء الأسري، ومع بقاء معدلات البطالة مرتفعة، ومع انخفاض الأجور التي يقدمها القطاع الخاص، الذي أدمن العمالة الرخيصة والأرباح الضخمة، فاقتصادنا فعلاً أمام تحديين كبيرين: تقليص معدل البطالة بشكل جدي فعال، أي التوظيف برواتب تكفل العيش الكريم، وتكفل بالتالي للشاب إيجاد مسكن، سواء على المستوى القريب أو البعيد. الأزمتان مرتبطتان. والاقتراض الذي طرحته وزارة الإسكان كبديل لبنك التسليف العقاري هو حل جيد في اقتصاد منتعش، اقتصاد لا يكفل فقط فرص عمل برواتب معقولة، ولكنه أيضًا يكفل ديمومة الاستمرار في توفير هذه الفرص لسداد القروض. وهذه الحلول مجربة وناجعة في اقتصادات مستقرة مكتملة النمو، قد لا تقارن بحالة اقتصادنا أو قطاعنا الخاص.
حقيقة، لا يمكن للدولة أن تشتري أراضي وتوزعها على الناس، وتقرضهم ليبنوا مساكن عليها، ولا يمكنها انتزاع الأراضي من أصحابها ومنحها للناس؛ لأننا في دولة تكفل حق الملكية للمواطن وتحميه. ومُلاك العقار اشتروا عقاراتهم في حالة تضخم، وبمبالغ كبيرة؛ فليس من العدل مصادرتها منهم. باختصار، ليس هناك حلول سهلة لهذه الأزمات الهيكلية المترابطة في اقتصادنا. وفي الوقت ذاته استمرار حالة البطالة المرتفعة، وشح المساكن، له تداعيات أخرى خطيرة.
الأوضاع الاقتصادية ليست مترابطة مع بعضها فقط، بل مترابطة مع جوانب أخرى مجتمعية ونفسية. فمن يفتقد المسكن يفتقد السكينة، وصعوبة توفير المساكن قد تنعكس على جوانب أخرى من حياة المجتمع، من أهمها تخلخل التكوين الأسري للمجتمع، وارتفاع مستوى العنوسة، والإحساس بفقدان الأمل وتدني المستوى النفسي لدى بعض قطاعات الشباب. لا توجد حلول سريعة جاهزة كما يعتقد البعض. والحل يكمن في القطاع الاقتصادي الخاص وليس العام؛ فالقطاع الوظيفي الحكومي متضخم.
بعبارة أخرى: آن للقطاع الخاص أن يبرز وطنيته، ويقدم تضحيات حقيقية، هو المستفيد الأول منها على المستوى البعيد. وفي رأيي المتواضع، يتوجب أن يكون هناك اجتماع وزاري منعقد بصورة شبه دائمة، يضم وزراء: الإسكان، والعمل، والاقتصاد، والشؤون الاجتماعية؛ للعمل على الخروج من هاتين الأزمتين بأسرع وقت ممكن للحفاظ على الثوابت الاجتماعية والأسرية للمجتمع السعودي.
ويجب ألا تبقى فرصة وظيفية واحدة يمكن للسعودي القيام بها ولا يمكَّن منها بسبب وجود وافد يشغلها. ويجب أن تُمنح جميع القطاعات، خاصة، شبه حكومية وحكومية، فرصة محددة بإطار زمني لإحلال السعوديين في جميع الوظائف المجدية في اقتصادنا حتى لو أدى ذلك لتراجع مؤقت في أدائها في أسوأ الأحول؛ فالأداء الوطني هو فقط الكفيل بالنهوض بالاقتصاد والمجتمع. ونتمنى أن نشاهد حالة استنفار أقوى مما نشاهده حاليًا للقضاء على التستر وغيره من أساليب التلاعب بالوظائف في القطاع الخاص. فالكرة الآن في ملعب هذا القطاع الذي تم تسهيل جميع الأمور له في الماضي بشكل ربما أضره، وحوَّله لقطاع هش متراخٍ غير قابل للتحول والتطور، ومعتمد بشكل كلي على الأجنبي، سواء كموظف أو كفرنشايز. ونحن بما نملك من إمكانيات بشرية ضخمة اليوم، صرفنا عليها ثلث دخلنا القومي بشكل متواصل لأكثر من أربعة عقود، نستحق قطاعًا خاصًا فاعلاً لا قطاعًا خاصًّا اتكاليًّا.