د. جاسر الحربش
ليست الوفرة الغذائية فقط هي المسؤولة عن الانتشار الوبائي لأمراض التغذية في المجتمعات الخليجية، بل هو الانحراف الغذائي عن القديم المجرب إلى الجديد المستورد. حياتنا الحضارية المرفهة غذائياً أصبحت أعجز وأكسل من التعامل من الغذاءين الصحراويين الأهم، التمور وألبان الإبل. قبل بضع سنوات جربت حليب الإبل مرة واحدة ثم توقفت رغم لذة طعمه وعظيم فائدته. توقفت لأن جهازي الهضمي لم يعد يستحقه ولا كفؤاً له. فقدت الكفاءة الهضمية لهضمه بسبب انصرافي عنه لحليب الأبقار، فأصبح له نفس مفعول زيت الخروع والعشرق (السنامكي). هذه الظاهرة معروفة طبياً، فمن ينقطع لفترة طويلة عن شرب الحليب يفقد القدرة على هضمه وإن شربه أصيب بالإسهال، وكلما كان نوع الحليب أجود غذائياً كان فعله التنظيفي أقوى إلى أن تتجدَّد العصارات الهضمية في بطن الشارب بعد التكرار والإصرار. حليب الإبل وحليب اللاما في أمريكا الجنوبية هما أقوى أنواع الحليب الحيوانية على الإطلاق.
وضعت هذه المقدمة للتساؤل المنطقي عن الصحراء وكيف استطاع ساكنوها البقاء عبر الأزمنة لولا أن رزقهم الله بأفضل شجرة وأقوى حيوان، وإلا لتحولوا بالاصطفاء النوعي إلى أحجام الجرابيع. جربوع الصحراء كان في الماضي السحيق بحجم الكنغر الأسترالي ويسميه علماء الحيوان فعلاً «Desert Kangaroo»، لكنه ضمر وانكمش مع عوامل الجوع والجفاف الصحراوية عبر الأزمنة. وجود شجرة وحيوان بهذه الضخامة والكرم من معجزات الخلق، حيث لا ماء ولا تربة تبرر هذه المواصفات بين كثبان الرمال. إذاً لماذا انحرف اهتمام من أنقذتهم النخيل والجمال من الهلاك إلى استهلاك حليب الأبقار وأطنان الأرز والنشويات والزيوت المستوردة وتركوا المتوفر المجرب؟ إنه الغباء الاستهلاكي والجهل بشروط البقاء التي يحددها الطقس والمناخ، علاوة على أنه عقوق أخلاقي ونكران جميل.
لأن الموضوع يحتاج إلى مقارنة علمية لتتضح درجة الغباء الغذائي والجهل بشروط البقاء، فلنقارن بين الأبقار مقابل الإبل والنخيل مقابل (على سبيل المثال) أشجار الزيتون، ولا يحضرني شجرة أخرى تستحق المقارنة ولو عن قرب بالنخلة. هذه المقارنة هي الحلقة القادمة.