د.عبدالله بن موسى الطاير
ليس لدي مشكلة مع الديمقراطية الليبرالية، من حيث المبدأ. تكمن المشكلة مع الذين يطيحون بنظام سلطوي اليوم ويريدون أن تتحول الدولة إلى ديمقراطية ليبرالية غدا. هذا وهم عشعش في رؤوسهم ردحا من الزمن، وتنظير لا يتجاوز الصفحات التي كتب عليها أو محيط الهتافات التي تنادي بالديمقراطية. لا ألوم تلك الأصوات التي اكتوت بجحيم التعسف، فهي تتوقع أن مجرد سقوط النظام سوف ينقلها لنعيم الديمقراطية بشعاراتها المتمثلة في الحرية والعدل والمساواة والكرامة. هؤلاء البسطاء تغذيهم أصوات موتورة، ومحرومة من نعمة الوطن، تتمثل قول المتنبي إذا بت ظمآنا فلا نزل القطر. الذين ينادون بديمقراطية ليبرالية، في بلدان للتو أسقطت أنظمتها السياسية، إنما يعيشون في جلابيب ماض ازدهر في التسعينيات لا يعترف بغير الديمقراطية الليبرالية.
اليوم تغير الحال كثيرا على مستوى العالم، فالديمقراطية بقدر ما توفره من فرص، فإنها تنشئ تحديات خطيرة على مستقبل الدولة ذاتها، ولنا في دول إقليمية عبرة. أفغانستان والعراق مثلا وعدتا بديمقراطية لم تأت منذ سنوات طويلة، فكيف يمكن أن تأتي للجزائر والسودان اللتان لم تكملا مخاض التحول؟ المشاركة والحرية والعدالة والمساواة لن تطعم أحدا من جوع، أو تؤمنه من خوف، والشعوب لم تخرج للشوارع بسبب الحرمان منها، وإنما خرجت احتجاجا على شظف العيش وارتفاع الأسعار وتفشي البطالة. يتوقع عامة الذين خرجوا للشوارع أن مجرد سقوط النظام سيفتح لهم أبواب النعيم. الواقع أن الاستقرار وحده هو أول مقدمات الازدهار، أما الديمقراطية فإنها ليست العصى السحرية لحياة أفضل للشعوب.
الديمقراطية الليبرالية باتت موضع تساؤلات مصيرية في القارة الأوربية عندما توضع في مقابل الاستقرار، بل إن البعض يراها تترنح في شرق أوربا حيث التوجه العام باتجاه إعلاء شأن الاستقرار على حساب التعددية والتمثيل الشعبي. بدأ هذا الهاجس ينتاب منظري الديمقراطية منذ ثلاثة عقود تقريبا حين كتب لاري دياموند بأن الديمقراطية الحديثة تحتاج إلى تحقيق التوازن بين التمثيل والسلطة، وهما متناقضان. ففي حين تعني الديمقراطية عدم تركز السلطة في أيدي القلة، إلى جانب التمثيل الشعبي والمساءلة، فإن الديمقراطية المستقرة يجب أن تكون قادرة على التصرف بشكل حاسم أحيانًا. وهذا يوصف بدقة ما يجري في السودان. ففي حين تعلن بعض فصائل المعتصمين قوائم تمثلهم في الحكم، تعترض فصائل أخرى على تلك الأسماء وتقدم أسماء بديلة، وإذا استمر التنافس بين الفصائل التي أسقطت النظام فإن الصراع المسلح فيما بينها هو المصير المنتظر، لا سمح الله. المجلس العسكري الذي بيده السلطة له حسابات أخرى تتمثل في عدم انزلاق البلد للفوضى التي تؤدي إلى إسقاط الدولة ذاتها، وحين ذاك لا ينفع الندم. هناك توجه عالمي نحو الاستقرار كمحرك ومتطلب أساس للرخاء، ويقبل مؤيدو هذا التوجه وجود سلطوية مرنة قادرة على تحقيق الاستقرار وقبول تمثيل شعبي ومساءلة للسلطة بالقدر الذي لا يعرض الدولة للخطر. وفي الشرق الأوسط تسعى دول مثل السعودية والإمارات ومصر مدعومة بالتجربة الروسية والصينية وبإدارة الرئيس ترامب لإعادة بناء الدولة الوطنية في العالم العربي بعد أن هشم بعضها ما يسمى بالربيع العربي، وقبله المد الديمقراطي الغربي كما هو الحال في العراق الذي أسقط الأمريكيون نظامه المستقر وفشلوا على مدى 15 عاما في بناء ديمقراطية تحقق الأمن والاستقرار والازدهار في ذلك البلد الثري.
هذا الجهد يقابله جهد مضاد تضطلع به ثلاث دول في المنطقة تعمل على تعميق الخلافات والدفع بشعارات التعددية والحرية والكرامة والعدل والمساواة، وإلهاب مشاعر الشعوب لرفض أية تسويات تغّلب الاستقرار على الفوضى. المفارقة أن تلك الدول الثلاث أبعد ما تكون عن تطبيق الشعارات التي تدفع بها في مجتمعات أخرى لتبقيها في حالة احتراب دائم.
دول أوربا التي تمثل أقدم الديمقراطيات في العالم بدأت تقبل بتغير نوعي يغّلب الاستقرار على حساب التعددية والتمثيل الشعبي، مع حضور مؤثر لقيادات شعبوية قوية في أوربا الشرقية.
في المقابل فإن الثائرون في الدول العربية التي انقلبت على أنظمتها وأسقطتها يريدون بدء المسار الديمقراطي من أول السطر، دون النظر إلى ما طرأ من متغيرات على الحراك الديمقراطي الليبرالي في دوله الأصلية.