سام الغُباري
تبدأ حلقات الموسم الثامن من المسلسل الأكثر شهرة في العالم «صراع العروش»، ويبدو أن ملوك العشائر قد اجتمعوا - أخيرًا - على محاربة «الموتى». لستُ شغوفًا بالفانتازيا، فهي وثبة غير منطقية في عالم لا مكان فيه لميت يحمل سِلاحًا، إلا اليمن!
عاد الميتون إلى الواجهة، يتسكعون في شوارع صنعاء المحتلة وقد بدت ميتة هي الأخرى، مطفأة، موحشة، خرساء لا تنطق، وباردة كميت، فيما لا تزال المعركة - بتصنيف صراع العروش - في موسمها الثالث، ذلك يعني أننا بحاجة إلى خمسة مواسم أخرى لقتال الموتى الذين تنعشهم حكايا الثأر المدفون في قصص «يزيد والحسين» أو «زيد وهشام»، ورغم أن لا أحد من أولئك مات في اليمن، إلا أن صنعاء مطالبة بالقصاص من ملوك غادروا الحياة قبل ألف عام تقريبًا! إنها فانتازيا مُخجلة!
لإنعاش الذاكرة، وتجسيدًا لعُقدة الموت الأزلية، يُطل علينا مجرمو صنعاء بأنشودة تصف «حسين الحوثي» أنه «الدِين»! ذلك يعني أن علينا كيمنيين الاستعداد لمواسم جديدة من بكائيات لا تجف، حسرة على «قاطع طريق» ليس له عمل صالح سوى اسم جدّه - كما يدّعي كذبًا -، إرغامنا على القبول بتنظيف الدماء التي سكبها، والأعناق التي ذبحها، وإهجاع الأرامل اللائي قُتِل أزواجهن عن النحيب لئلا يُرهق ذلك جثمانه المنثور على جبال صعدة.
أيضّاً: صالح الصماد كراع وثّق آخر لحظات حياته بزيارة معامل الألغام، هو الآخر ترتفع صوره في ذكرى اصطياده كـ «إرهابي حقيقي»، تدور حوله آيات الثناء المُر، زاعمةً أنه «اليد التي تحمي»، بل كان اليد التي تزرع الألغام في باطن اليمن حصدًا لأرواح الأبرياء. تلك الدعاية المكثّفة لن تمحو مَشَاهِده الأخيرة وخطاباته الدموية وإقباله على ظهر دبابة لقتل حليفه الرئيس الراحل «علي عبدالله صالح»، وقد كان يهرول إليه، يلثم جبينه، لإلهائه عن خنجر الغدر الذي حصد روحه في مواجهة دامية انفطرت لها قلوب ملايين من اليمنيين.
صراع العروش يُشكِّل رمزية يمانية بتفاصيلها الدقيقة، سيطر الموتى على العاصمة حقًا بأفكارهم وعتادهم وإصرارهم على دفن كل إرث يماني، يقابلهم برود ميت، ونفور مُحزن عن الهوية في مناطق الجنوب اليمني، فيما لا أحد يفكر جادًا في إعلان الحرب الفكرية وتمويل الجبهة الثقافية وتقوية الدعاية وتنشيط اليمانية كهوية مُثلى تمنع الميتين من استعمال السحر للبقاء في العالم الحقيقي، وتضع بيننا وبينهم برزخًا من حديد، وشواظ من نار تُلاحق مردتهم المرتدين، وتعيد لليماني روحه فيرجع عن ركب الموتى وينضم إلى الحياة التي يُمثّلها كإنسان يرفض إهانته في هويته واستلاب مستقبله.
حين يجد اليمني إجابة عن سؤاله التائه: من أنا؟ إذا انغرس الجواب في صدره كيقين، وفي شرايينه كدم، وفي عقله كدِين، وفي ضميره كوطن، سيعدو واثبًا خلف خطوط أعدائه الذين يحسبهم اليوم أهله وعشيرته، ويحمل سيف «عمرو بن معد بن يكرب» ليحصد أوهامهم ورؤوسهم التي تأبى السلام.
يجب أن ترجع «بلقيس»، ويطفو قحطان على ما بقي من مياه الطوفان مُحييًا أحفاده الصغار، ويستعيد «كرب إيل وتر» معبده، ويبتسم «ذو نواس» في محرابه الأخير، وتحضر لغة أهل اليمن القديمة في مواجهة كهنة الموت المتكرِّر، وتدور في الرؤوس عروبة الرجال الميامين فتتوحّد الجزيرة بقلب عربي واحد، وتنسل الهويات الزائفة من شقوق الجدار وتفر هاربة، ويُتوّج الرئيس اليماني على عرش سبأ، تُبّعًا أصيلًا، ومن حوله تعود الحياة وتبزغ شمس النهار، ويُدفن الميتين الذين لا ينتمون إلينا إلى الأبد.
وإلى لقاء يتجدّد.