د. محمد بن يحيى الفال
في عالمنا اليوم لا تخلو الكثير من حواضره وأريافه من انتشار الأسواق الأسبوعية، وقد تساوى في هذا الانتشار كل من العالم المتقدم والعالم النامي وذلك بكون هذه الأسواق تعد البدايات الأولى للعمل الاقتصادي الإِنساني وقبل أن يعرف العالم الأسواق الحديثة المنتشرة حاليًا في كل أرجاء المعمورة، والتي لم يستطع انتشارها وإقبال الناس عليها في القضاء على الأسواق التقليدية القديمة. من الممكن القول إن هناك عددًا من الأسباب الكامنة من وراء استمرارية عمل الأسواق الأسبوعية رغم المنافسة الشرسة من الأسواق الحديثة لعقود ودخول التجارة الإلكترونية مجال المنافسة عبر ما تتيح من خيارات متعددة للمستهلكين وبكل يُسر وسهولة لشراء كافة أصناف التجارة وذلك عبر شبكة الاتصالات الدولية (الإنترنت)، ولعل أهم هذه الأسباب لاستمرارية الأسواق التقليدية الأسبوعية يمكن ملاحظاتها من خلال محورين رئيسيين، أولهما أن الأسواق التقليدية الأسبوعية تعود بالناس إلى الفكرة الإِنسانية القديمة للسوق بكونه مكان لقاء اجتماعي تُعرض فيه مختلف أنواع السلع وبأسعار في المتناول وتعطي المشتريين فرصة الاطلاع والمساومة وتفحص البضاعة المعروضة للبيع، وهي كذلك فرصة سانحة لخروج أفراد العائلة مجتمعيين لقضاء وقت ممتع مع بعضهم البعض لتناول الطعام ولشراء منتوجات تقليدية غالبًا لا تتوفر في الأسواق الحديثة. المحور الثاني الذي يمكن ربطه باستمرار عمل الأسواق التقليدية الأسبوعية وهو محور ذو طابع اقتصادي مرتبط ارتباطًا وثيقًا وواضحًا بمفهوم التنمية المستدامة (Sustainable Development)، والتي تهدف إلى استمرارية تطوير المجتمع من خلال عمل تجاري مرتبط بالأرض وهو الأمر الذي تتفوق فيه الأسواق الأسبوعية على غيرها من خلال ما تقدمة من منتوجات زراعية وخلافها هي في أغلبيتها من إنتاج الأرض التي يُقام السوق في محيطها.
ونرى الارتباط الوثيق بين الأسواق الأسبوعية وبين التنمية المستدامة في حجم مدخولات هذه الأسواق في الناتج القومي للعديد من دول العالم التي تنتشر فيها الأسواق الأسبوعية وكما هو الحال الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية التي تعدان من أكبر اقتصاديات العالم. ففي الولايات المتحدة تنتشر الأسواق الأسبوعية في طول البلاد وعرضها وتتفوق ولاية نيويورك بالأسواق الأسبوعية المتخصصة في تجارة الملابس بكافة أنواعها، بينما تتفوق كل من ولايات بنسلفانيا وأوهايو وأنديانا بالأسواق الأسبوعية التي تتوافر فيها كافة المحاصيل الزراعية ومنتجات الحليب ومشتقاته ويعود ذلك لانتشار طائفة الأمش في هذه الولايات (Amish)، وهي مجموعة من السكان الأمريكيين من المهاجرين الأوائل الذين قدموا تحديدًا من ألمانيا أو الجزء الألماني من سويسرا ويُعرف عنهم تدينهم وارتباطهم بزراعة الأرض والبعد عن كل تعقيدات الحياة الحديثة. وفي الصين التي اعتمدت في نهضتها الحديثة بكونها بلدًا زراعيًا بامتياز، فلقد لعبت الأسواق الأسبوعية دورًا محوريًا في تطور الاقتصاد الصيني وازداد هذا التطور مع الإصلاحات التي شهدتها الصين مع راعي نهضتها الحديثة الذي قاد سياسة الإصلاح لاقتصادها الحديث الزعيم دينغ شياو بينج (Deng Xiaoping). وفي القارة الأوروبية تنتشر الأسواق الأسبوعية في كافة أرجاء القارة ولعل من أشهر هذه الأسواق هو سوق بورتوبيلو اللندني (Portobello)، الذي بدأ شهرته في بيع التحف الفنية ليصبح لاحقًا أحد أهم المعالم السياحية للعاصمة البريطانية.
وفي عالمنا العربي كانت الأسواق الأسبوعية تفوق مثيلاتها في عديد من دول العالم، وكانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمنتوجات الأرض، ولا تخلو دولة عربية حاليًا من هذه الأسواق وإن كان هناك نقص واضح في أعدادها لأسباب عدة لعل أهمها ضعف الاهتمام بها وهو أمر غير منطقي ويحتاج إلى مرجعيات سريعة، ومع قول ذلك فإن الاهتمام بهذه الأسواق ما زال قائمًا ومُلاحظًا في المملكة المغربية الشقيقة التي تنتشر في كل مدنها وأريافها الأسواق الأسبوعية وتزخر بكم هائل من السلع والمنتوجات المحلية.
وفي بلادنا العزيزة وهي مربط الفرس فيما يخص هذا المقال كانت الأسواق الأسبوعية منتشرة بشكل كبير في ربوع بلادنا وخصوصًا في المنطقة الجنوبية والمنطقة الوسطى والمنطقة الشرقية، ولعل القاسم المشترك بين انتشار الأسواق الأسبوعية وهذه المناطق هو كونها جميعًا مناطق زراعية، ويعزز هذا القول وإلى حد ما هو شبه انعدام الأسواق الأسبوعية في كل من منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة وهو أمر يبعث للاستغراب خصوصًا أن المنطقتين كرمهما المولي جلت قدرته كمزار للمسلمين من حجاج ومعتمرين وزوار من كافة أصقاع الدنيا مما يحتم تدارك هذا القصور الذي يحتاج إلى تصحيح عاجل. هناك عديد من المعطيات الجديدة التي تجعل من الضرورة إعداد دراسة عن وضع الأسواق الأسبوعية وتصحيحه ولعل الأهمية هنا هي أن هذا التصحيح يصب تمامًا في تطبيق بعض محاور رؤية 2030 التي رعاها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وأطلقها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، والتي تقضي في عديد من هذه المحاور إلى زيادة مشاركة القطاع الخاص في الإنتاج القومي لبلادنا عوضًا عن الاعتماد الذي طال أمده على سلعة البترول المتذبذبة الأسعار. أعتقد بأن هناك جهتين حكومتين وبحكم الاختصاص يُقترح بأن يتوليان إعادة إحياء الدور الحيوي للأسواق الأسبوعية وعلى مستوى المملكة، وهاتان الجهتان هما البلديات والمجمعات القروية التي تمثلهما وزارة الشؤون البلدية والقروية كجهة تنظيمية، وصندوق تنمية الموارد البشرية كجهة تمويلية وذلك لإعادة الدور الاقتصادي للأسواق الأسبوعية كمصدر مهم و؟أساسي للدخل والكسب الشريف للكثير من الأسر في بلدنا رعاها الله.