رمضان جريدي العنزي
الصقيع يدك الجسد، والريح ليست بعاتية، قلت بنفسي سأتدثر، فليس من الحكمة أن أخرج بهذا الجو القارس بلا دثار ثقيل، الشارع طويل، الجو غائم، والمطر يهطل بشكل رذاذ خفيف، الشوارع مزدحمة، والمحلات مفتوحة، وأصوات الباعة لها ضجيج، كل الأشياء أمامي وحولي حافلة بالحراك، صار لزاماً عليَّ اكتشاف مسارب أخرى توصلني إلى فضاء رحب، هاأنذا أحول وجهتي صوب الطريق المنحدرة نحو السهوب الخضراء الممتلئة بالورد الربيعية المختلفة والأشجار والأطيار، هذا هو المدى الذي يتسع لمخيلتي ورؤياي، هناك في البعد المقابل القريب رعاة متهدلين بأردية أثرية، عيونهم متأججة بسلاهب غيمة عابرة، في وجوههم شموخ وتحدٍ، يدغدغون أحلامهم مع غيمة الصباح، ومطر المساء، ويطعمون أرواحهم بالقادم من الجميل، الأعشاب الندية صورة أخاذة، والأشجار تعانق بعضها عن هبوب الريح، ومواكب الغيم تتزاحم كأنها لوحة سريالية فاتنة، وصوت العصافير كأنها مقطوعة حالمة، أعرف أن قلبي يدرك وشوشة الأشياء، وأعرف أن روحي تكتسي وهجًا من مناظر الطبيعة الخلابة، وأعرف بأنني أغيب عن الوعي لحظة أن تطأ قدماي أرض الطبيعة البكر، حيث العشب والغيمة والماء، وحدها هي الفراشات تستريح على أجنحة الورد، تحمل رهافة الشكل والجمال، صور تنبجس من حوافها انعكاسات لمرايا وشموع، ذات هلاهل ضوئية تهطل كطل ربيعي، وكصوت مخملي جذاب، انتعش بتسامٍ حيث مياه الينابيع، وهتون المطر، ويرتقي حدسي ارتقاء الصعود لشتاءات باردة، يجيئني الماضي، سديم شفيف، كلون العشب، حوافه معطرة، وطعمه كرحيق عسل مصفى، حتى ضجري ينأى بعيداً عني، ومللي يفر، هاأنذا أسير في الطريق الترابي، أمارس هوايتي المحببة، بعيدًا عن زحام المدينة الكثيف، حيث المطر يتكور داخل رحم الغيمة، والريح الباردة الخفيفة تداعب تضاريس الوجه والجسد، رائع أن تمقت الكآبة والملل، وأن تروّح عن النفس، تأخذها من لواعجها وتسورها بالحبور، وترحل بها صوب الفرح، حيث منحيات الروابي قصيدة من ذهب، والقهقهة ملء الحنجرة، والأفق مرقط بالسعادة، أعبر أوداج تعبي بهذياني، حين تجيء الظهيرة اللاحامية، تطفو بروحي أشواقي الطفولية اللاهبة، فجأة تهتز شباك أشواقي، وتتناخى قوافلي، لتترك بصماتها على التواءات روحي المتعبة، في الطبيعة سلالات نباتية متنوعة وكثيفة، وألوان مائلة للحمرة والصفرة والبنفسج، وسراب الطيور وهي عائدة من الغدير لتسكن أعشاشها وتطعم صغارها، تنزف مليون فكرةعيدة، وتطرد مليون كآبة، وتجعلك تنام على مصاطب المرمر، تفتح جريدة القلب، وتسكن في مهجة الروح، وتهد هياكل الضجر، هي الطبيعة أمخر في عبابها لكأني للتو ولدت، في سفري أسوح في سهوب الطبيعة، أصطاد من النهر الصغير، وأطارد الفراشات الملونة، وأرهف سمعي لصوت العصافير، وأراقب أسراب الحجل، والغزالة اللطيفة والوعل الوديع، وصهيل الخيول الجامحة، والنسور المحلقة في فضاءات بعيدة، ترتقي سعادتي لتعانق الروح، حتى لكأنها مراوح نسجتها أصابع الهواء الشفيف، تمور رشاحة، وتمور لطافة، كطل ساقط بتؤدة، أذهب عبر الدروب، أبحث عن فجوة تطل منها الفكرة، لأكتب سيرة سفر، مليئة بمفازات اللغة، وكلام مثقل بكنوز الحكمة والمفردة، أعود من سفري وقد ملأت قلبي بالفرح، وكحلت أهدابي المعرفة، وأسكنت روحي بالدعة.