د.عبد الرحمن الحبيب
اخترع ألفرد نوبل الديناميت عام 1867، وصار يُستخدم على نطاق عالمي واسع في مجال التعدين وبناء شبكات النقل وحفر الأنفاق والحجارة، فضلاً عن استخداماته العسكرية بالحروب. في عام 1888 توفي لودفيج شقيق ألفرد أثناء زيارته لمدينة كان، وقامت صحيفة فرنسية بنشر نعي لألفرد نوبل عن طريق الخطأ. تمت كتابة النعي بجملة «تاجر الموت قد مات»، وأضافت: «الدكتور ألفرد نوبل، الذي أصبح غنياً من خلال إيجاد طرق لقتل المزيد من الناس أسرع من أي وقت مضى، توفي بالأمس».
صُدِم نوبل وشعر بخيبة أمل مما قرأه وانتابه القلق على ذكراه بعد موته؛ فعزم على اتخاذ قرار سيترك أثراً تاريخياً طيباً لاسمه.. ففي عام 1895، قبل وفاته بسنة واحدة، وقَّع نوبل وصيته مكرساً الجزء الأكبر من شركته بثروتها الطائلة لتأسيس جوائز نوبل التي تُمنح سنوياً دون تمييز لجنسية الفائز، والتي أصبحت أهم الجوائز التقديرية بالعالم.
الآن، نفس القلق يعتري مخترع شبكة الإنترنت تيم برنرزـ لي، حيث أخبر بي بي سي، قائلاً: «أنا قلق جداً إزاء الضرر والتضليل الذي ينتشر». وفي خطاب مفتوح أقرَّ بأن الكثيرين أصبح لديهم شكوك في استمرار الشبكة كقوة تعمل من أجل الخير. مخترع الإنترنت يخشى على مستقبل اختراعه من الانزلاق في أعمال شريرة من سرقة وقرصنة وتضليل.. فضلاً عن فقد المعلومات لاستقلاليتها وحياديتها لتصبح محتكرة من «إقطاعيات جديدة» توجهها حسب رغبتها في التأثير على المتلقي الذي قد يتحول إلى مجرد مستهلك توجهه تلك الإقطاعيات. لذا أطلق تيم الشهر الماضي مبادرته لحماية مستخدمي الإنترنت في ذكرى مرور ثلاثين عاماً لإنشاء الإنترنت.
هذه المبادرة «مثالية وواقعية بنفس الوقت» كما يقول جوناثان زيتراين مؤلف كتاب «مستقبل الإنترنت»، الذي يرى أنها تنطلق من فكرة أن إنترنت مجاني ومفتوح ينبغي أن يساعد على تمكين مستخدميه، بدلاً من تحويلهم إلى مجرد مستهلكين؛ ذاكراً أن «خطاب تيم المفتوح لم يُنشر لمجرد المطالبة ببناء شبكة أفضل، لكنه يدعو أيضاً إلى العودة للالتزام بالمبادئ التي تجسدها»، متضمنة إتاحة إمكانية الدخول على الإنترنت من أي مكان بالعالم، والشفافية التي تعني القدرة على مشاهدة وفهم كيفية عمل تطبيقات الشبكة.
فكيف يبدو مستقبل الإنترنت في العشرين سنة المقبلة.. مشرقاً أم قاتماً؟ قبل خمس سنوات عندما كان تيم يحتفل بمرور 25 عاماً على اختراعه كان أمله مشرقاً أكثر مما هو الآن بأنه في عام 2040 «ستكون لنا ملكية أكبر للمعلومات الخاصة بنا».. تدفق معلومات مفيدة وخدمات ذكية نافعة.. بدءاً من معرفة حالة الازدحام بالطرق صباحاً، إلى تذكير المواعيد وتحسين طرق العمل والطعام والصحة.. إلخ.
خبير أمن المعلومات بروس شنيار يرى أنه لا خوف على الخصوصية متوقعاً في الخمس والعشرين سنة المقبلة ظهور قوانين وتقنيات لحماية الخصوصية.. «لن يكون حجم التجسس وجمع المعلومات بمستوياته الحالية.. سينظر الناس القلقون على مسألة الخصوصية إلى ما يحدث حالياً من اختراق للخصوصية كما ينظر الناس إلى عمالة الأطفال التي كانت سائدة بالماضي، على أنها شيء لا يقبل بوجوده معظم الناس».
لكن هناك من يرى نقيض ذلك.. قد تصحو صباحاً وتجد أن حسابك البنكي تعرض للسرقة.. قد يأتي يوم تصبح فيه أسعار الإنترنت باهظة والمقتدرين مادياً وحدهم من يستطيع الدخول للمواقع المفيدة والجديدة، ويصبح الدخول للمعلومات خاصاً بالنخبة، وقد تُحدد المعلومات التي يراد لك معرفتها أو التي يمكنك معرفتها، ومن خلاله يتم تحديد مستقبلك وأسلوب عيشك من قبل آخرين يسيطرون عليك.. قد تتعرض لمراقبة كل تفاصيل حياتك.. قد نتعرض لهجمات إرهابية.. قد تشتعل الحروب السيبرانية.. إلخ.
أي الطريقين المشرق أم القاتم أقرب للواقع؟ آمال تيم أن يكون الإنترنت محايداً ولا مركزياً «نريد مواصلة الكفاح من أجل حيادية الإنترنت»، وألا يتم احتكار المعلومات ففي شبكة تنافسية مفتوحة لا تدفع فقط إلى الابتكارات الإيجابية التي يتوق إليها الناس، بل يمكنها السماح بسيادة قيم المساواة.
الذين اخترعوا الإنترنت والذكاء الاصطناعي قادرون على اختراعات وسن تشريعات تحد من سلبياته.. خذ مثلاً شبكة الأخلاقيات العالمية وهي أهم المنظمات المعنية بأخلاقيات مجتمع المعلومات، وضعت قيماً أساسية للإنترنت، وهي: العدالة والمساواة (في الوصول للمعلومات)، الحرية، الرعاية، التعاطف، المشاركة، التقاسم، الاستدامة، المسؤولية. وتذكر المنظمة أنه من أجل مواجهة ما يؤثر على قيمنا وضبط أخلاقيات الإنترنت يجب اقتراح التشريعات وفرضها. ويتم حالياً تطوير وإقرار مدونات أخلاقية من دول عدة في مؤتمرات مختلفة إلا أنه يجب أن يستمر العمل لتكون مدونة الأخلاق وثيقة حية، مع إيجاد طرق لتطبيق الأخلاق والتفكير الأخلاقي، حسب هذه المنظمة.
أما مخترع الإنترنت فيقول: «أرغب في أن نبني عالماً أستطيع فيه التحكم بمعلوماتي الشخصية، بمعنى أن أكون المالك لهذه المعلومات، وأن يكون بإمكاننا كتابة تطبيقات تأخذ المعلومات من الجوانب المختلفة كافة من حياتي وحياة عائلتي وأصدقائي». الخشية أن تكون الشراهة التجارية أكبر من الرغبة النزيهة والطمع أكبر من الأمل، طالما أن الإعلان التجاري هو المحرك الرئيسي لأعمال الإنترنت.