للعلم سلطان عجيب على نفوس البشر، فهم ينظرون إلى العلماء والكُتَّاب نظرة ملؤها الإجلال والتقدير والاحترام، وهم يتوقعون أن يروا من هؤلاء المثقفين من المفاجآت وكل نافع مفيد وجديد وإذا حلت ضائقة بهم سارعوا إليهم يطلبون الحل ويلتمسون الرأي السديد وهذا في حد ذاته يلقي على أهل الثّقافة والفكر والأدب مسؤوليَّة أخلاقية خاصَّة أساسها النصح والتوجيه فالكاتب الحق لا يكون بعيداً عن الشعور بواقع الأمة التي ينتمي إليها فهو دائم التفكير والتأمل في حالتها ووضعها دائم البحث والتنقيب عن مشاكلها وأزماتها ومصائبها ومكائدها وهو بحكم خبرته قد يعرف الكثير من جذورها السّائدة مما يساعده على إبراز تلك الأزمات وتلك المصائب والآلام فهي موضوع تفكيره الدائم عن ضحايا الأمم وعن الدمار في الأنفس والأموال والممتلكات والكوارث والحروب والتشريد والقتل والنهب والسلب والتعدي والغريب في ذلك أن المرء لا يدرك اللذَّة إلا بالألم ولا الفائدة إلا بالمصيبة كما أنه لا يدرك الحلو إلا بالمر ولا المر إلا بالحلو ولا يمكن أن يتصور أبجديات السعادة والسرور إلا بالشقاء والعناء والتعب - فالسعادة والشقاء وجهان لقطعة من النقود لا يمكن أن يتصور أحد الوجهين إلا بالآخر.
علماً أن المصائب والشدائد نفسها لا تخلو من وجه جميل فهي ليست قبيحة صرفاً ولا شقية خالصاً بل كثيراً ما تكون بلسماً كما تكون جروحاً ودواء كما تكون داء إن الرخاء قد يفسد الطبيعة البشريَّة فلا بد لها من شقاء يصلحها كما أن مادة الحديد قد تفسد فلا بد من نار تذيبها حتى تصلحها، فكذلك النفوس البشريَّة قد يطغيها النعيم ويصدئها الترف فلا بد لها من نار لكي تتطهرها ويذهب رجسها.
وإذا أردت أن تعرف نفوس البشر حقاً سوف تعرفها جيداً في أوقات الشدائد والمحن لا في أوقات النعيم أما في أوقات الرخاء ترى الجمال المتصنع والقبح المتصنع وترى القبيح بعدة أشكال وألوان تارة ترى القبيح في شكل جميل وتارة ترى الجميل في شكل قبيح أما كافَّة الشدائد فترى الجمال عارياً وكذلك القبيح عارياً وتارة ترى الحق حقاً والباطل باطلاً وترى الأوضاع تارة تنقلب والقيم والمبادئ تختلف فإن كافة الأمم لا تُخلق إلَّا من الشدائد والمصائب والكوارث ولا تحيا إلا بالموت ولا يصهر نفوسها إلا عظائم الأمور ولا تنال استقلالها إلا بضحاياها ولا تسترد حريتها إلا ببذل دمائها - ولا يترك قوم الجهاد إلا ذلوا ولا استلم قوم للترف والنعيم إلا هانوا تلك هي قوانين طبيعية للعالم بمنزلة قوانين الحرارة - والضوء والجاذبية لا تتغير ولا تتبدل ما دام العالم هو العالم فإن درجة الرقي تصبح عالية عند بعض أفراد الأمة عندما يروا لذتهم فإنهم يألموا لإسعاد غيرهم وسعادتهم في تضحيتهم فالمرء يعتبر نفسه نواة لهذه التضحية فهو يضحي من لذته لإسعاد الأبناء وإسعاد الأصدقاء ولكن البعض من البشر يرون في حرية الأمم واستقلالها من مبادئ العدل والحق والمساواة فهي تعتبر من أسمى العلاقة الشخصيَّة بين المرء وبين أسرته أو منزله وبين الأصدقاء والأحبة فإنهم يقدسون هذه المعاني السامية ويعيشونها فإن أبجديات الإنسانيَّة لا ترى إلا عن طريق المصائب والمكائد والمحن فالفرد أحياناً يجد كل شيء ممهداً وسهلاً.
لا يصلح لشيء - والغني المترف الذي يجد كل شيء في كل وقت وحين لا يكلف نفسه شيئاً أكثر من ذلك حتى يتمتع بقواعد الحياة كمثل النبات الطفيلي يستهلك ولا ينتج فإن المهمات الأساسية الملقاة على عاتق الكُتَّاب والمثقفين والتي يستحيل على غيرهم القيام بها فقد أخذ الله تعالى الميثاق قديماً على أهل الكتاب - كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم:- وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ .
وقد وجه الإسلام علماء الأمة إلى بذل العلم للناس ورغب في ذلك ترغيباً لا تطير له وتوعد الذين يكتمون ما يحتاج إليه الناس بالوعيد الشديد كما أن الكُتاب والمثقفين بجهودهم المتواصلة هم الذين يرفعون سقف المعرفة في بلدانهم وبين العتبة والسقف تنمو ثقافة الأمة في كافة مجالات الحياة.
فإن الصحة لا تنال إلا بالأعمال الرياضية الشاقة وبذل الجهد المضني ولا لذَّة للراحة إلا بعد التعب والعناء ولا لذَّة للماء إلا بعد العطش ولا لذَّة الأكل إلا بعد الجوع كذلك الأمم لا تدرك قيمة الخير إلا بالشر ولا الفوائد إلا بالمصائب.
والله الموفق والمعين.