حمّاد السالمي
* ما حكاية الجَرس التاريخي هذا؛ وما علاقته بـ(مَنْ)؛ التي لا إجابة لها منذ القدم حتى يوم الناس هذا..؟!!
* جاء من قصص الأدب الإنجليزي؛ أنه كان يعيش في أحد الأمكنة المهجورة؛ مجموعة من الفئران. الفئران كانت تعيش في سلام آمنة؛ لا يشغلها من أمور البشر شاغل.
* ذات يوم نحس؛ اكتشف مكان الفئران هرّ أتعبه التسكع في الشوارع، فلجأ يبحث عن الراحة التي وجدها مقرونة بالأكل طبعًا، فأخذ يتصيد الفئران واحدًا تلو الآخر، متخذًا له مكامن اختباء مضمونة، حيث ينقض عليها قبل أن تنتبه إليه فتهرب منه.
* ضاقت الفئران بهذا الوضع الخطر، فدعاها كبيرها إلى اجتماع (على مستوى القمّة والقاعدة)..! بهدف النظر في أنجع السبل للخلاص من هذه المصيبة التي سوف تقضي على بني الفئران كافة، فلا يبقى من الفِئرة سوى صورها، مثلها مثل الديناصورات المنقرضة قبلها.
* انعقد الاجتماع؛ وأخذ الأعضاء في التداول. كل فأر وفأرة يأتي برأي، وكثر الجدل والصياح، وتعالت الأصوات، وكاد الأمر يصل إلى شجار وعراك وتشابك بالأيدي كما يجري عادة بين بني البشر..! فكل الذي طرح من آراء؛ لا يؤدي إلى حل للأزمة. فجأة.. وقف كبير الفِئرة ورفع يده، فران على الكل الصمت. قال الفأر الكبير ولا كبير إلا الله: تعالوا هنا.. إن لدي فكرة لو نفذناها لأمنّا شرّ هذا الهر المتطفّل. قال الأعضاء في سرور وحبور: وماهي..؟ ردّ الكبير: سنعلّق في رقبة الهرّ جرسًا، حتى إذا ما أقبل من بعيد؛ نسمع صوت جلجلته فنسارع في الاختباء. يا لها من فكرة فأرية رائعة..!
* صفّق جميع الفِئرة، وانهالوا على كبيرهم تقبيلًا وعناقًا، ولكنهم ما لبثوا أن جمدوا في أماكنهم، حين سألهم كبيرهم سؤالًا أضاع البهجة من نفوسهم، وزرع مكانها اليأس والبأس حين قال: مَن يعلّق الجرس..؟! هنا.. تضاءل ذكاؤهم أمام قوّة الهرّ..!
* احتار كل الفِئرة في هذا السؤال الصاعقة: من يعلق الجرس في رقبة الهر..؟! ذلك أن من سوف يتصدى لمهمة تعليق الجرس؛ سوف يصل إلى فم الهر قبل أن يصل الجرس إلى رقبته..!
* انتهت القصة، وبقيت الفكرة القائمة على تداول الأفكار الجميلة، وطرح الحلول السهلة، التي ما تلبث أن تصبح من المهام الصعبة، بل المستحيلة التنفيذ.
* هل تعلمون أيها السيدات والسادة؛ أنه منذ أبينا آدم عليه السلام إلى اليوم؛ وهناك فِئار خائرة، وجرس لم يعلق، و(مَنْ) حائرة؛ تبحث عن شجاع يقول لها: أنا هنا..؟!
* مَن يعلق الجرس.. في حياتنا العامة كافة. في دورنا، وفي أسواقنا وشوارعنا، وفي تعاملاتنا اليومية بشكل عام..؟
* من يعلق الجرس.. في كثير من الجهات الخدمية التي تُعنى بالشأن العام كله. في التعليم، وفي البلديات، وفي الشرط وإدارات المرور، وفي المؤسسات الأهلية والحكومية؛ التي تتقاطع معها مصالح المواطنين بشكل يومي، وتشهد الكثير من البيروقراطية الإدارية، ويعيث فيها الفساد الإداري والمالي، ويجري فيها تقديم المحسوبيات على حساب النزاهة في العمل، والشفافية في الأداء..؟
* من يعلق الجرس.. في العلاقة بين العاملين وأرباب العمل. وفي العلاقة بين البائع والمشتري، وبين التجارة والمستوردين؛ وبين المستهلكين الذين يعانون من الغش وارتفاع الأسعار فيما يُؤكل ويُشرب ويُلبس ويُركب، وما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية..؟
* من يعلق الجرس.. في رقبة شركة المياه، وفي رقبة شركة الكهرباء، وفي رقبة خدمات شركات الاتصالات. شركات خدمية لا تتورع عن استغلال المستهلك وابتزازه بشكل واضح وصريح..؟
* من يعلق الجرس.. في أدوات الخطابين الإعلامي والديني، فمن هذه الأدوات والمنابر؛ ينطلق التكوين الفكري لخاصة الناس وعامتهم، ومنها يجري تحديد المواقف الجمعية والفردية من مختلف القضايا الوطنية والدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ومن خلالها يمكن تصحيح المفاهيم المغلوطة، وتعزيز المواقف الوطنية الصلبة، للحفاظ على وحدة الوطن، وأمن المواطن..؟
* من يعلق الجرس.. الذي نراه صباح مساء؛ فيما يكتبه الكُتّاب، وينصح به النُّصّاح، ويعرض إليه المصلحون، وتسير به الأوامر والتوجيهات والتعليمات من المراجع الإدارية العليا؛ إلى الجهات ذات الاختصاص في كافة القطاعات..؟
* ما أجمل ما نطرح من أفكار، وما أكثر ما نتداول من آراء ووجهات نظر، ولكنها لا تجاوز مكانها، لتبقى مشاكلنا هي هي.. ويظل الكثير من قضايانا دون حلول ناجعة، والسبب: أن كثيرًا مما نفعل؛ يتقزم أمام الذي نقول، وأن الأيدي الشجاعة؛ لا تجرؤ على ملامسة الجرس؛ عوضًا عن تعليقه في رقبة المشكلة، التي تجد الحماية في حضور الجبن والتخاذل، وتحظى بالرعاية في بيئة الفساد الإداري والمالي. ما أكثر ما نقول، وما أقل ما نفعل.
* إن من أخلاق العرب وشيمهم؛ الصدق في القول والعمل، وكانوا يقولون: بأن أقوال الناس أكثر جرأة من أفعالهم، وهذا صحيح، ولهذا قال شاعرهم؛ وما أصدق ما قال:
نبني من الأقوال قصرًا شامخًا
والفعل دون الشامخات ركامُ