«الجزيرة» - محمد السنيد:
الحياة لا تبدأ دوماً بتاريخ الميلاد؛ فهناك حياة حقيقية تُولد مع تحقيق الحلم الأغلى أو قهر المستحيل.. هنا فقط يشرق نور الدنيا ليضيء حياة طفل ظل سنوات يعيش فقط الحلم.. خلال الأيام الماضية احتفلت مراكز جمعية الأطفال المعوقين المنتشرة في عدد من مناطق ومدن المملكة بالميلاد الجديد لعشرات الأطفال أطلوا على الدنيا الحقيقية خلال عام 2018م، إثر انتصارهم على ظروف إعاقتهم المتعددة، واكتساب مهارات حركية وذهنية ونفسية واجتماعية جديدة أهلتهم لحياة مستقلة، يستطيعون فيها خدمة أنفسهم والتعبير عن ذواتهم.
من بين عشرات الحالات التي تم تأهيلها في مراكز الجمعية الطفلة «رنيم» التي التحقت بمركز الملك فهد لرعاية الأطفال المعوقين بالرياض في عمر الخامسة، وهي تعاني من شلل دماغي أفقدها العديد من المهارات الحركية، فقد كانت تعتمد بشكل رئيس على الكرسي المتحرك في تنقلاتها، وتستعين بالغير في كافة مهارات الحياة اليومية، إلى جانب اهتزاز ملحوظ في يديها، بالتوازي تلقت «رنيم» برنامج تأهيلي تضمن إلى جانب العلاج الطبيعي والوظيفي الالتحاق بمدرسة المركز حيث انتقلت من مرحلة (الطفولة المبكرة - التمهيدي- أول فكري- ثاني فكري - ثالث فكري)، وبفضل من الله ثم الجهود المبذولة من كافة الكوادر الطبية والتعليمة في المركز و المتابعة المنزلية، تطورت حالة الطالبة الجسدية والنفسية حيث تستخدم المشاية بدون مساعدة وأصبحت أكثر توازن.
وأخيراً باتت تمشي باستقلالية تامة وبدون أي مساعدة.كما تلاشت مظاهر الاهتزاز في اليد وباتت «رنيم» أكثر ثقة بنفسها وتقوم بكافة أمورها الحياتية بنفسها، كما تطورت الطالبة من الناحية الأكاديمية ومهارات ما قبل الكتابة. ويتم تأهيلها النهائي للاستفادة من برنامج الدمج في مدرسة حكومية.
وبين رموز الإرادة تبرز الطفلة «منيرة» ابنة الثامنة، وهي مصابة بشلل دماغي رباعي مع صعوبة في النطق، بل إنها تصنف غير ناطقة، وتستخدم الكرسي المتحرك في التنقل، حيث لا تستطيع الوقوف أو الاعتماد على نفسها في الحركة.
في مركز الجمعية بالرياض بدأت منيرة تخط صفحات كتابها في الرضا، وحصلت على برنامج تأهيل وتدريب علاجي وتعليمي مكثف شمل جلسات العلاج الطبيعي والوظيفي؛ حتى تحققت المعجزة نسبياً؛ إذ تمكنت منيرة من المشي باستخدام المشاية دون الحاجة إلى المساعدة. وفي القسم التعليمي تم تدريبها على استخدام بطاقات للتواصل مع الآخرين (لغة بلس)، وهو أحد البرامج المطبقة في مراكز الجمعية للتغلب على مشكلة صعوبة التواصل، أعقبها تطبيق برامج متقدمة لدعم احتياجاتها التعليمية في الصف الأول الابتدائي؛ حيث تم التركيز على وضع البرامج التعليمية في جهاز الحاسب الآلي داخل الفصل وتعديل لوحة المفاتيح لتدريب الطالبة على الكتابة لشدة إعاقتها وعدم قدرتها على الكتابة بالقلم. وفي نهاية الفصل الدراسي الأول تميزت الطالبة في ترتيب بطاقات الحروف والكلمات والجمل في كل المواد، وتمكنت من الكتابة على الحاسب الآلي بل والإجابة عن الأسئلة والامتحانات عبر الحاسب.
ومؤخراً احتفل المركز بتخريج «منيرة» ودمجها في نهاية الفصل الدراسي الثاني بإحدى مدارس التعليم العام، وإلحاقها ببرنامج (نور) التابع لوزارة التعليم، وتمكنت من اجتياز الصف الأول الابتدائي، والآن تدرس في الصف الثاني.
ومن الرياض إلى جدة، وتحديداً في مركز الملك عبدالله لرعاية الأطفال المعوقين، حيث احتفى منسوبو المركز بالطفل «بدر» الذي حقق تقدماً واضحاً في لغته الإدراكية والتعبيرية بعد تنفيذ برنامج متكامل في وحدات المركز، ومن خلال جلسات التخاطب وتعاون الأهل في تدريبه على البرنامج المنزلي المقرر له بعد خروجه من السكن؛ حدثت نقلة ملموسة في قدرته على التواصل والتعبير. أما بعد جلسات النطق واللغة وتطبيق البرنامج المنزلي المقرر له فقد أصبح بدر يتواصل من خلال جمل طويلة مكونة من ثلاث إلى أربع كلمات، وأصبح قادراً على المحادثة، ويعبر عن احتياجاته بوضوح بنسبة 90 %، كما تحسن تركيزه أيضاً وكذلك لغته الإدراكية، وأصبح قادراً على تسمية الصور الملونة، والأفعال، والتمييز بين الكلمات المتضادة، وفهم الكلمات الجديدة بسرعة، ومطابقة الألوان والأشكال الأساسية، وأصبحت لغته الإدراكية متناسقة مع عمره الزمني.
أما «شهد» ابنة السادسة فقد التحقت بمركز الجمعية في جدة، وهي مصابة بالشلل الدماغي التشنجي الرباعي، وكانت تعاني من تأخر في النمو الجسدي، وتلقت برنامج علاج مكثف منذ انضمامها إلى المركز. وإلى جانب برنامج التأهيل، لعبت الأسرة، والأم تحديداً، دوراً بارزاً في تحقيق أهداف البرنامج؛ إذ إنها سعت بشكل كبير إلى استمرار الطفلة في التمارين والبرامج العلاجية المنزلية خلال فترة الانقطاع.
وقد أظهرت «شهد» تحسناً ملحوظاً في قدرتها على التحكم بالجذع أثناء الجلوس، وفي المدى الحركي لمفصل الكتف وقدرتها على تحميل الأوزان على الجزء العلوي من الجسد. وأصبحت لا تخشى الحركات المفاجئة وواثقة أكثر من ثباتها أثناء الجلوس، والتنقل بحرية عند وجودها على سطح مستوٍ، وبالإضافة إلى ذلك فإن ثباتها وثقتها بنفسها جعلاها تصبح أكثر اعتماديةً على ذاتها في أداء مهارات الحياة اليومية وخدمة نفسها.
وفي مركز الأمير سلطان بن عبدالعزيز لرعاية الأطفال المعوقين بالمدينة المنورة برزت قصة الطفل «أحمد».. قاهر الصلب المشقوق، والذي انضم للمركز في يناير 2018، وهو في الخامسة من عمره، وتم تشخيص حالته (إصابة بالصلب المشقوق (قطني- عجزي)، واقتصرت قدراته حين التحق «أحمد» بالمركز على الوقوف بمساعدة، والمشي باستخدام المشاية، أما بدونها فلا يستطيع المشي لأكثر من خطوتين فقط لعدم قدرته على حفظ توازنه.
تم بناء خطة تأهيل لفترة 6 أشهر حقق فيها أحمد جميع الأهداف المحددة له من الفريق في العلاج الطبيعي والوظيفي بمشاركة من الأهل، وبعد ذلك اكتسب أحمد كماً ملموساً من القدرات والمهارات، حيث أصبح قادراً على الوقوف من وضع الجلوس باستقلالية تامة.. والوقوف بدون مساعدة مع استخدام يديه في نشاطات مختلفة أثناء الوقوف، كما نجح في المشي بدون مساعدة لـ15 خطوة على الأقل، بل بات يستطيع صعود و نزول درجات السلم مستنداً على يد واحدة.
وكذلك كانت حالة الطفل «بدر» الذي التحق بالمركز في نهاية عام 2017، حيث كان يعاني من شد حاد في عضلات الأطراف السفلية وضعف ملحوظ في عضلات الأطراف العلوية. وكان من الصعب عليه التنقل إلا بالحبو أو معتمداً على الكرسي المتحرك، وعندما بدأ بتلقي العلاج في العيادات الخارجية، تم عرضه على عيادة العظام حيث تقرر إجراء جراحة لتطويل أوتار في الأطراف السفلية.
أجرى بدر الجراحة في مايو 2018م، وبعد ذلك حصل على برنامج علاجي مكثف، ليحقق تطوراً كبيراً في قدراته الحركية وفي فترة وجيزة، حتى بات الآن قادراً على التنقل مستقلاً، ويستخدم المشاية بسرعة وسهولة واتزان، وكذلك قادراً على الوقوف مستقلاً لفترة قصيرة.
ومن المدينة المنورة إلى حائل وتحديداً في مركز الملك سلمان لرعاية الأطفال المعوقين الذي احتفى مؤخراً بالطفل «إبراهيم» الذي التحق بالمركز في عمر الرابعة ويمثل حالة خاصة فهو لا يملك أيّ مهارة حركية (لا يتقلب، لا يجلس، مع تحكم ضعيف في الرأس). إضافة إلى كونه يعاني من مشاكل في التواصل، (لا يستجيب، يبدو غير واع لما يدور حوله) ولديه مشاكل حسية أيضاً.. كان عمره سنة وأربعة أشهر عندما التحق بمركز الجمعية بحائل عام 2014م. تشخيصه تحديداً، نقص المناعة ولديه تأخر عام في الحركة.. بدأ بتلقي خدمات العلاج في المركز من (طبيعي/ وظيفي/ نطق/ نفسي/ تمريض) وفي 2016 بدأ الطفل بالانتقال من مهارة حركية لأخرى وفي 2017 أصبح أكثر تعاوناً مع الإخصائيات وأكثر تحكماً بالمهارات الحركية. وفي 2018 بدأ الطفل ولله الحمد المشي باستخدام المشاية، ونمت قدراته الحركية بشكل غير مسبوق، وظهر التنسيق فيها بتوازن، كما أصبح قادراً على التواصل البصري، ومعرفة وتطبيق الألوان، وينطق كلمات محدودة ويتفاعل مع محيطه بالإشارة.
أما «عبدالرحمن» فقد عانى من شد وقصر في الأطراف السفلية نتيجة إصابته بشلل دماغي بعد الولادة مما أدى إلى صعوبات في المشي والحركة (المشي على الركب في البيت واستخدام كرسي التحرك خارج البيت).. التحق بمركز حائل في شهر ديسمبر 2015، وخلال عام من هذا البرنامج اكتسب «عبدالرحمن» مهارات ذهنية وحركية متعددة أهلته لالتحاق بمدرسة المركز في العام الدراسي 2017 - 2018.
واستكمالاً لخطة العلاج خضع «عبدالرحمن» لجراحة لتحرير أوتار للأطراف السفلية وبعدها واصل برنامج العلاج الطبيعي ليحمل شهر مارس 2018 المفاجأة الأغلى، حيث انطلق «عبدالرحمن» في أولى خطوات المشي بشكل مستقل. وحالياً يستطيع «عبدالرحمن» التجول سيراً على قدميه، وبدون مساعدة إلى جانب تميزه الدراسي.
وفي مركز الجمعية بمنطقة عسير تمثل الطفلة «فاطمة» قصة نجاح أخرى، فقد أصيبت بشلل دماغي نصفي لم تتمكن معه أكثر من الحبو ثم حدثت المعجزة لتبدأ خطواتها تلامس الأرض.. يقول والدها: «منذ قدوم فاطمة، وأنا متفائل جداً أن إعاقتها لن تدوم طويلاً.. ألهمني الله اللجوء إلى مركز جمعية الأطفال المعوقين بعسير.. هنا بالتحديد كنت مقتنعاً بأن المكان مختلف تماماً؛ فقد لمستُ تحسناً جديداً بعد كل جلسة لفاطمة؛ الأمر الذي عزز لديّ الأمل بأنه لربما يتحقق لو القليل من الحلم.. هناك مركز آخر كان مهماً، وهو ما ساهم بشكل خاص في مساعدة فاطمة على المشي؛ المركز الخاص، وهو أمها التي كانت تبذل قصارى الجهد معها.. واليوم تنتقل «فاطمة» من مكان إلى آخر دون الحاجة إلى أي وسيلة مساعدة فيما يشبه العجزة ما يرى فريق العمل.