سهام القحطاني
خُلق الإنسان بنزعة اجتماعية وتلك النزعة لا شك أنها تقدير إلهي لتهيئة الإنسان لعمارة الأرض وترقيتها وهي غاية لا يمكن تحققها إلا عبر تلك النزعة التي تعني قدرة الإنسان على إنشاء استيطان اجتماعي يحقق له غاية الإعمار والارتقاء.
وتدفع تلك النزعة الفرد إلى تحديد إطار لمفهوم وجوده وكيفياته، وهو إطار ينبني على ضرورة إيجاد تعريف لكينونته ملامحه وقدراته ورغباته، وما يسعى إليه، وهو سعي يحقق له الكفايات اللازمة لحفظ وجوده، وهي كفاية الأمن والطعام والشراب والتناسل. ثم تطورت تلك الكفايات بتطور قدراته العقلية لتشمل الثقافة والتاريخ وطقوسه التعبدية.
وتلك الكفايات المتطورة لم تكن لتتحقق بدورها إلا من خلال «ضامن الاستقرار» وهنا تأتي الأرض الرمز الأول لقيمة وجود الإنسان وصناعة هويته.
فالأرض أول أساسيات بناء هوية الفرد فمن خلالها استقى الإنسان الأول معايير كينونته التعريفية، ومع توسع وجوده الكمي وتشعّب النزعات وتطورها من التجزئة إلى الكلية والتمكين من توطين واقع معين ظهر الخلاف والاختلافات.
لا شك أن ظهور الخلاف والاختلاف هو مقياس ينبني عليه ظهور آخر يناقضه وهو التوافق والتشابه، وهو مقياس ضرورة يمكن اعتباره هو المحفّز الأول للبحث عن معايير لصناعة «هوية خاصة»، تنقله من المجهول إلى المعلوم.
والهوية بهذا المنظور تعني معرفة الإنسان لذاته وعلاقاته من خلال منظومة معلومة من الاعتقادات والمهام والأفعال.
كما أن ثنائية التوافق والتشابه وما يقابلها من خلاف واختلاف مقياس حاصل في الأصل بدافع «قوة الصراع».
إن المعايير البسيطة للمفاهيم لا توّلد صراعاً، لكن كلما تعقدت معايير المفاهيم ولد التنافس والصراع.
وهذا المبدأ الذي أسس بنية التاريخ الإنساني منذ قصة هابيل وقابيل، دفعت الجماعات في إرهاصاتها التاريخية إلى إيجاد وسيلة دفاع عن النفس والأرض والكرامة تتميز بالاستدامة والقوة الذاتية المتجددة، وكانت هذه الوسيلة هي «قوة الهوية».
اتبنى مفهوم الهوية نتيجة تحول الجماعات العشوائية إلى كيانات وظيفية، وهذا التحول أسهم في تطور فكر الإنسان الأول الذي تجرد عن أنانيته الفردية وآمن بدور الجماعة في تحقيق أمنه وحمايته.
وحتى تتحقق هذه الغاية كان لا بد من إيجاد وحدة انتماء لذلك الكيان لضمان مشاركة الجميع في حماية ذلك الكيان.
وكانت الهوية الوسيلة الوحيدة لتُحقق تلك الغاية من خلال ما عُرف فيما بعد بالعقد الاجتماعي.
ومن هنا بدأ الإنسان الأول في التفكير في كيفية صناعة هوية تخلق داخل ذلك الكيان وحدة انتماء تدفع كل فرد إلى الدفاع عنه حتى الموت.
إن بناء الهوية هي «صناعة وجدانية» في المقام الأول تعتمد على إدارة العقل الوجداني للأفراد ووحدة المتضادات؛ «الحب والكره، الحياة والموت،الحرية والعبودية» فوحدة المتضادات تلك هي التي تأسست في ضوئها الهوية في أبسط دلالاتها.
فتلك المعايير كانت تعتمد على الكفايات الرئيسة للوجود الإنساني، وهكذا تم الربط بين الهوية واستمرار وجود الأفراد، باعتبار الهوية الضامن الأساسي لبقائه محافظاً على مكتسباته الحياتية.
وبذا تحولت الهوية في الذهن الجمعي البدائي إلى معادل لبقاء الفرد و الجماعة على قيد الحياة بكفاياتها الضرورية.
إن مفهوم الهوية في ماهيتها الفكرية لم تجد طريقها إلى ذهن الأفراد إلا مع التقدم المعرفي طويل المدى، لكن في بدائية ذلك الفكر كان مفهوم الهوية مرتبطاً بالحضور المادي-الأرض- الذي كان يتناسب مع القدرات الفكرية للإنسان الأول.
فالأرض هي النموذج الذي كان يمثّل «مفهوم الهوية ومداها - وما زال-.
وهكذا ارتبطت هوية الأفراد بالمحافظة على تلك الأرض والدفاع عنها، فبقاء تلك الأرض هي بقاء لحياته، وسلبها هي سلب لحياته، هذه الاشتراطية المتلازمة بالنفي والإيجاب، حولت الأرض إلى أهم معايير صناعة الهوية الإنسانية.
ومع تطور الفكر الإنساني تعددت أساسيات توثيق الهوية.
فطول الفترة الزمنية التي قضاها في أرض تملك تضاريس متنوّعة تطبع بطباعها، والتكشف المستمر لسلوكيات الأفراد وتشعب علاقاتهم، وظهور الآخر في أقنعته المختلفة أنتج حكايات أصبحت مع التقادم هي أساس التجارب والخبرات التاريخية لتلك الجماعات، التاريخ الذي أضيف كمكون رئيس لتوثيق بناء الهوية.
ولم تكن حكايات الواقع التي تحولت إلى تاريخ مكون مفرد لتوثيق الهوية، بل تمت إضافة القوالب الثقافية التي أنتجتها الجماعات والطقوس الدينية والقوانين الاجتماعية، وبذلك تطور مفهوم الهوية من الحضور المادي - الأرض- إلى حضور فكري بحدوده التاريخية والطقوسية والثقافية والاجتماعية، وبهذا المسار تشكل المفهوم الفلسفي والفكري للهوية.
حتى أصبحت الهوية هي الحدّ الشرعي لبنية وجود الجماعات، وهذه القيمة الحادة الأهمية أدخلت الجماعات و الشعوب في صراع على حدود الهوية وحمايتها؛ لأنها أصبحت معادلاً لوجود الجماعة ثم أصبحت رمزاً لتفوقها الحضاري وتمكينها السياسي.
كان ارتباط الهوية بالحدود الفكرية؛ التاريخ والثقافة في بداياته نتيجة الصراع بين الجماعات على الأرض؛ وفقدان بعض الجماعات لأرضهم، وكانت تلك الحدود الفكرية هي الذاكرة المستيقظة التي تبقي الأفراد على علاقة حيَّة بأرضهم وأصولهم يحملونها أينما تشردوا أو هجّروا، لتظل دافع قوة للعودة، ولعل اليهود أشد نموذجاً توثيقياً لهذه الحالة.
وهو أمر كان يعرّض تلك الهويات المشرّدة أو المهجّرة إلى تصفية وإبادة جماعية كما حدث للأرمن في ظل الدولة العثمانية.
وصراع الهويات صراع قائم ومستمر بدءاً من إنسان العصر الحجري وصولاً إلى صاموئيل هنتنجتون؛ لأن الهوية الأقوى هي مقاوم لأي انصهار وبالتالي فهي تحمل داخلها عوامل تفوقها وخلودها وتلك العوامل تُصبح مصدر خطر لكل من يحاول التحكم فيها أو امتلاكها.
ولا شك أن مفهوم الهوية مفهوم متطور في تنظيراته الفكرية لكنه أحادي الغاية والقيمة؛ ولذا تنبني عليه الأصالة التاريخية للجماعات والقوالب الثقافية والقوانين الاجتماعية.