العمل التطوعي الذي يرتكز على تقديم خدمة عملية بلا مقابل مادي، هو عمل قديم قدم البشر. انطلق من حتمية المشاركة بين أفراد ومجموعات المنظومة البشرية الواحدة لمواجهة مشاغل وأعمال الحياة التي كانت بالغة الصعوبة ولا يتم إنجازها إلا من خلال العمل الجماعي الذي تتصدى له المجموعة تطوعاً بشكل تلقائي وغير واعٍ.
مع ظهور الموجة الحضارية الثانية وتحوّل المجتمعات البشرية من العمل الزراعي والرعوي الذي يتطلب الإنجاز فيه المشاركة الجماعية وتبادل الأعمال وتوزيعها على المجموعة بشكل تطوعي وتبادلي يستفيد منه الجميع وتحتّمه طبيعة العمل نفسها، إلى العمل الوظيفي المهني في المصانع والمؤسسات الذي يرتكز على المهارة والجهد الفردي بالشكل الذي ساهم في تقليص الروابط والبنى المجتمعية وانحصار شبكة العلاقات القرابية وتحوّل شكل الأسرة من الشكل الممتد إلى الأسرة النووية. هذا التحوّل المعيشي والثقافي خلق مظهراً جديدا لحياة الإنسان -الذي هو كائن اجتماعي بطبعه- أدى إلى تلاشي ثقافة العمل الجماعي التشاركي في المجتمعات الصناعية بشكل كبير جداً إن لم يكن كامل. هذا التحوّل الكبير في هذه المجتمعات الذي ساهم في تفتيت البنى الاجتماعية بشكل أو بآخر خلق نوعا من العزلة والفردانية الحادة والشعور بالغربة لدى الإنسان المعاصر الذي حاول تقليصها والحد منها من خلال تقديم خدمات تطوعية تعيده لمشاركة الآخرين والشعور بروح الجماعة والرضا عن الذات من خلال هذا الشعور. بهذه الكيفية بدأت ثقافة العمل التطوعي في المجتمعات المعاصرة بالظهور والانتشار لبقية المجتمعات. تقبع خلفها دوافع إنسانية ورغبة فطرية بالمشاركة والشعور بالإنجاز الإنساني.
في وطننا العربي ولكوننا لم نذوب في المجتمع الصناعي بشكل كامل ولا نزال نحافظ على شبكة العلاقات الاجتماعية والقرابية ولم نغرق بالفردانية الحادة كما هو الحال في الغرب، ولكوننا من جانب آخر نقلنا مجتمعاتنا الصغيرة معنا إلى المدن الكبيرة بكل ثقافتها وصراع المكانة الاجتماعية الهرمي فيها، فإننا استوردنا مظهر العمل التطوعي لكننا لم نستورد ثقافته ولم نستطع توليدها لغياب دوافعنا الحقيقية نحوه، وهي الفردانية كما أتصور. بهذا الشكل نحن مارسنا العمل التطوعي لغير حقيقته، واستخدمناه كأداة جديدة من أدوات صراعنا المحموم نحو الوجاهة والمكانة الاجتماعية في غالب ممارستنا له (وليس فيها جميعاً بالتأكيد). فأصبحت أغلب الأنشطة التطوعية مسرحاً رحباً (للمترززين) والباحثين عن الوجاهة الاجتماعية، بالشكل الذي انعكس سلباً على العمل التطوعي برمته، وعلى الغايات والنتائج المرجّوة منه كعمل. وفي ظل هذا الواقع لم يعد للمتطوع الحقيقي مكانا في ظل هيمنة (المترززين) والطامحين لتحقيق مصالح شخصية تحت مظلة التطوع. فلا بيئة التطوع أصبحت ملائمة في ظل هيمنة هؤلاء، ولا حتى النظرة النمطية التي أصبح الناس ينظرون بها للمتطوع. المشكلة أنه ومع هيمنة هذه الفئة على المشهد العام للعمل التطوعي والاجتماعي أصبح الإنسان الصادق والباحث عن المصلحة العامة بحسن نية بعيدة عن الوجاهة، ينأى بنفسه عن العمل الاجتماعي حتى لا يعتقده الناس من ذات فئة (الترزز) المهيمنة. التطوع ممارسة إنسانية راقية تم اختطافها كما الكثير من الممارسات. مع ذلك فإن هذا لا يمنع بأن هناك مبادرات تطوعية رائعة لم يغيّب جمالها ضبابية ما يحيط بها.
بتصوري أننا مجتمع حديث عهد بثقافة هذا العصر وطرائق معيشته بالشكل الذي يجعلنا نمرّ بمرحلة مخاض يشوب العمل فيها الكثير من الأخطاء، لكنها ستفضي إلى مرحلة أكثر وعي للعقل الجمعي وقدرته على فرز الأعمال التي تتم تحت مظلته بشكل ناضج تفضي إلى أعمال ناضجة تؤدي الأدوار المنوطة بها بشكل حقيقي.
** **
- تركي رويّع