د.محمد بن عبدالرحمن البشر
جل كتب التاريخ العربية القديمة، نقلت لنا الأوضاع السياسية، والفتوحات، والحروب الداخلية، والمنافسات، والمناكفات، كما أنها طرحت بين أيدينا القليل مما يجري داخل قصور سراة القوم، والقادة، كما فعل الأصفهاني في الأغاني، أو ابن منظور عن أبي نواس، وغيرهم، وكما نقل لنا ابن قتيبة في عيون الأخبار، بعض أقوال لأولئك القوم، وسار على دربه ابن عبد ربه في العقد الفريد، وسطر لنا شيخ المؤرخين في الأندلس ابن حيان، الكثير عن الأوضاع السياسية لكن من النادر جداً أن تجد من يتحدث عن الأوضاع الاجتماعية لعامة الناس البسطاء وطريقة تعاملهم وملبسهم ومأكلهم، ومشربهم، وأسلوب حياتهم.
جاء الحسن الوزان عام 920 هجرية، ليغطي ذلك الجانب واصفاً إياه وصفاً مفصلاً كما رآه بأم عينه، لكن مع الأسف أن ذلك لم يشمل المشرق، وإن كاد أن يفعل لولا اكتفاءه بوصف أفريقيا.
يقول الوزان إن عقبة بن نافع بعد أن جاء بجيش الفتح، وأنهى مهمته، عاد الأعيان والأشراف، إلى المشرق، وبقى معه الجند، وبعد أن أمن الجند العرب وطابت معيشتهم، امتزجوا مع البربر وغيرهم، وفسدت لغتهم العربية الصافية، لكن ظل العرب والبربر يحتفظون بشجرة نسبهم، ويمكن لكل كاتب عدل أن يشير إلى أصله العربي أو البربري.
كان الخلفاء المسلمون يمنعون الأعراب من اجتياز النيل بأهلهم وخيامهم، وهم الأعراب الرحل الذين يقيمون مضاربهم أينما وجدوا ماء وكلأ.
كلنا يعرف أن الدولة الفاطمية قامت في تونس، وأن القائد جوهر الصقلي قد دخل مصر التي كانت تحت الدولة الإخشيدية، وأنشأ مدينة القاهرة، وأقنع جوهر، الحاكم الفاطمي بالقدوم إلى مصر، ففعل، وجعل أحد خدام قصره، وهو بلكين بن زيري، حاكماً على القيروان وما يتبعها، لكن أحد الحكام الزيريين فيما بعد، ألغى الخطبة للحاكم الفاطمي، وأظهر ولاءه للحاكم العباسي، فاحتار الحاكم الفاطمي في الأمر فنصحه أحد وزرائه بأمر، لم يستحسنه ولم يرفضه، لكنه على أي حال لن يضره، بل سيجني منه مالاً.
كان اقتراحه أن يسمح للأعراب سكان البادية بعبور نهر النيل من الشرق إلى الغرب مع أهلهم وخيامهم، على أن يدفع كل واحد منهم ديناراً فقط، واشترط عليهم أن يعاملون بلكين بن زيري الثائر عليه في تونس معاملة العدو.
كانت أحوال المعيشة في بوادي المشرق قليلة الكلأ، شحيحة الماء، لهذا عبر نحو عشر قبائل عربية، أي نصف صحراء الجزيرة العربية، وبعض بطون قبائل اليمن وفي ظني أن الوزان قد بالغ في وصفهم بالنصف، وكان عدد الرجال المحاربين خمسين ألفاً، وعدد لا يكاد يحصى من النساء والأطفال والبهائم، وهذا التقدير قد نقله من ابن رشيق القيرواني.
وفي وقت وجيز، أصبح هذا العدد في الجانب الغربي من نهر النيل، وساروا إلى طرابلس وحاصروها، ولم تصمد، ودخلوها عنوة ونهبوها وقتلوا كل من أمكنهم قتله، ثم إلى مدينة قابس فخربوها، ثم وصلوا إلى القيروان، وحاصروها ثمانية أشهر وبها الثائر بلكين بن زيري فاقتحموها، وقتلوا من استطاعوا قتله، بما فيهم الحاكم الثائر، ونهبوا المدينة، وبقيت بعض أفراد أسرته تحكم بعض المناطق.
اقتسم الأعراب معظم بوادي الصحراء الكبرى، وانتشروا بها، وأصبحوا سادتها، وظلوا يقتلون وينهبون، كما يدعي الوزان، وأعتقد أنه بالغ في ذلك.
في المغرب وصل المرابطون إلى الحكم، وأرادوا بزعامة يوسف بن تاشفين الذي ساعدوا الزيريين، فانكسرت شوكة الأعراب، إلى أن جاء المنصور الموحدي، فأوعز للأعراب بقتال الزيريين، وساعدهم في ذلك، فعادت سيطرتهم على تلك البوادي، ونقل بعض أشرافهم إلى الشمال المغربي، والأعراب يأنفون السكن في المدن - كما يدعي - فهم خارج الصحراء، كالسمك خارج الماء، لكن الظروف لم تساعدهم، فاضطر البعض منهم أن يتخلى عن كبريائه، ويحرث الأرض، لكنهم أبو العيش في الأكواخ، ويظلوا يعيشون في خيامهم التي ينقلونها معهم أينما حلوا.
أما أولئك العرب الذين تخلفوا في الصحراء في ليبيا وتونس، فملكوا البلاد إلى أن جاء الحفصيون فقضوا عليهم، هكذا ينقل لنا الوزان المعتمد على ذاكرته، في كتابه، وما كان من أمر الهجرة العربية الكبرى إلى الجزء الغربي من النيل، وهم الأشداء الصبورين على نوائب الدهر.