زكية إبراهيم الحجي
كانت اللغة ولا تزال الوعاء الذي يبلور الإنسان من خلاله وعيه وأفكاره.. وبها يبني جسور التواصل مع الآخرين ولا يمكن الحديث عن فكر دون لغة تمنح الإنسان مسوغات ودلائل حضوره وتعامله وتصريف أموره المختلفة في جميع مجالات الحياة.. إذن اللغة هي الأداة التي تحدد علاقاتنا مع عالم الأشياء وتحقيق التواصل مع غيرنا.. ومن منطلق هذا الأساس المحوري كيف يمكن تصور علاقة بين اللغة والفكر.. هل هي علاقة وظيفية تكاملية كلاهما يخدم الآخر.. أم أن كلاً منهما منفصل عن الآخر ولا تأثير لأحدهما على الآخر؟
كان التصوير الفلسفي القديم يعتبر اللغة مجرد وعاء لفظي فقط لتستبطنه الأفكار التي تدور في عقل الإنسان وأن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة انفصال، بمعنى لا يوجد توازن بين ما لا يملكه الإنسان من أفكار وتصورات وما يملكه من ألفاظ وكلمات، ولعل أقوى من ناصر هذا التصور»أبو حيان التوحيدي» حيث رُوي أنه قال «ليس في قوة اللغة أن تملك المعاني»، وقد تكون حجته في ذلك أن الإنسان تجول في خاطره أحياناً أفكار لكنه يكون عاجزاً عن التعبير عنها.. وأبسط مثال الأم التي يحقق ابنها نجاحاً وتفوقاً متميزاً في دراسته فتلجأ إلى الدموع لتعبر عن حالتها الفكرية والشعورية.
ومع استمرار الجدل الفلسفي قديماً حول العلاقة بين اللغة والفكر إلا أن وجود بعض اللمعات الفلسفية عند بعض الفلاسفة جعلتهم يدركون الصلة بين اللغة والفكر من خلال جدلهم المتباين الذي دُوِّن في كتبهم.. ومن يقرأ كتاب»الامتاع والمؤانسة» للتوحيدي سيلحظ ذلك.. إن اللغة وسيلة لإبراز الفكر من حيز الكمون إلى حيز التصريح، لأنها مرآة العقل وما يجول فيه من أفكار، ولعل رأي الدكتور»طه حسين» في كتابه «مستقبل الثقافة العربية» حول علاقة اللغة بالفكر كان واضحاً جلياً، حيث يقول: نحن نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير.. كما أننا لا نستطيع أن نفرض الأشياء على أنفسنا إلا مصورة في هذه التي نقدرها ونديرها في رؤوسنا ونُظهر منها للناس ما نريد ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد فنحن نفكر في اللغة.
إذن التفكير جوهر اللغة ولا يمكن الفصل بأي صورة من الصور بين اللغة والفكر.. إذ لا معنى لفكر من غير لغة ولا للغة من غير فكر، والفكر من غير لغة تعبر عنه لا يعدو إلا أن يكون أمراً فارغاً، فاللغة تشكل الوعاء والفكر يشكل المضمون والعلاقة بينهما علاقة تفاعل وتكامل.