د. عيد بن مسعود الجهني
إرهاصات التحكيم ترتد إلى العصور القديمة؛ فنشأته تاريخيًّا قبل القضاء؛ فهو قديم قدم المجتمعات القبلية، وكان الأداة للتسوية الودية للمنازعات، وعرفًا في المجتمعات الفرعونية واليونانية والرومانية، إلا أن قرارات التحكيم في تلك العصور لم يكن لها أية سلطة أو قوة تنفيذية.
وعند العرب قبل الإسلام كان التحكيم عرفًا وشريعة سائدة. ولعدم وجود سلطة تلزم الأفراد به كان اللجوء إليه اختياريًّا، ولا سبيل لجبر المختصمين بتنفيذ حكم المحكم.
ففي الجاهلية كان التحكيم الوسيلة الوحيدة لفض المنازعات بين القبائل العربية، وقد كان تنفيذ حكم المحكم يعتمد على احترام شيوخ القبائل، وتنفيذ أحكامهم، وعلى النفوذ الأدبي للمحكم نفسه.
وفي الإسلام أقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان سائدًا في الجاهلية من اللجوء إلى التحكيم الذي يستمد أساسه في الشريعة الإسلامية من القرآن والسنة والإجماع.
القرآن الكريم وردت فيه نصوص كثيرة.. يقول - عز وجل - في كتابه العزيز {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (سورة النساء 58). والعدل في الإسلام مطلق، يشمل جميع الناس من المسلمين وغير المسلمين، بل يشمل الأعداء؛ قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (سورة المائدة 8).
وفي القرآن الكريم تشديد على العدل في مواضع عديدة؛ قال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة المائدة 42).
وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} (سورة النساء 35).
ويقول - عز وجل - في كتابه العزيز: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (سورة النساء 65).
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (سورة المائدة 95).
وفي السُّنة المطهرة عندما وفد أبو شريح هانئ بن يزيد - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلِمَ تُكنى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحسن هذا. فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله. قال فما أكبرهم؟ قلتُ: شريح. قال: أنت أبو شريح. ودعا له ولولده» رواه النسائي.
فإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي شريح على حكمه بين قومه بتراضيهم دليل على جواز التحكيم ومشروعيته. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حكم بين اثنين تحاكما إليه، وارتضيا به، فلم يعدل بينهما بالحق فعليه لعنة الله». رواه مسلم.
كما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي بتحكيم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في أمر اليهود من بني قريظة حين جنحوا إلى ذلك، ورضوا بالنزول على حكمه. كما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي بتحكيم الأعور بن بشامة في أمر بني العنبر حين انتهبوا أموال الزكاة.
وفي الإجماع عندما نشأ نزاع بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورجل من العامة هو أبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت للفصل في النزاع، وعندما ذهب الخليفة الفاروق مع أبي بن كعب إلى زيد بن ثابت، وسأل زيد أمير المؤمنين عن سبب عدم استدعائه له بدلاً من حضور الخليفة شخصيًّا، أجاب أمير المؤمنين قائلاً: «عندما نحتكم نأتي إلى بيت المحكم لنطلب إليه الفصل في النزاع». وعندما دخل الخليفة وخصمه إلى بيت زيد بن ثابت أعطاه زيد وسـادة ليرتاح إليها فرفض الخليفة ذلك قائلاً: «هذا أول تصرف لك يفتقر إلى الإنصاف».
الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اعتبر تقديم وسادة له دون معاملة خصمه مساواة له عملاً من المحكم مخلاً بالعدالة، وإخلالاً بمبدأ المساواة والحياد بين الخصوم.
واختلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع رجل في أمر فرس اشتراها عمر بشرط السوم؛ فتحاكما إلى شريح، وقد قضى شريح على عمر بن الخطاب في خلافته، وقضى ضد علي بن أبي طالب في خلافته أيضًا، وكلاهما ترافع إليه وهو يعتقد أنه على حق.
كما تحاكم عثمان - رضي الله عنه - وطلحة إلى جبير بن مطعم - رضي الله عنه -. وقد وقع مثل ذلك لجمع من كبار الصحابة - رضي الله عنهم - ولم ينكره أحد في اشتهاره فكان إجماعًا.
وبلاد الحرمين الشريفين دستورها القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ لذا فإن جميع الأنظمة واللوائح التي تصدرها الدولة يجب أن تكون نصوصها كاملة، لا تتعارض معهما، ومنها نظام التحكيم القديم والجديد.
ومن هنا فقد أحسنت الدولة صنعًا بإصدار نظام التحكيم الجديد الذي صدر بالمرسوم الملكي رقم م/ 34 بتاريخ 24 جمادى الأولى 1433هـ متضمنًا (58) مادة، شرحت الأحكام العامة، ومصطلحات وتعريفات العملية التحكيمية. ومن أهم أهدافه السرعة في فض المنازعات، وسد ثغرات العوار في النظام السابق له. وجاءت لائحته التنفيذية في (48) مادة شارحة للنظام.
وبذلك فإن المملكة في إصدارها نظام التحكيم الجديد تؤكد تطوُّر الأنظمة، ومنها التحكيم الذي له أهميته القصوى، خاصة أن المملكة عضو في منظمة التجارة الدولية، فضلاً عن منظمات عديدة أخرى. ويبرز ذلك اهتمام دول المنظومة الدولية بالتحكيم؛ لأنه في عالم اليوم أصبح يتسم بالمرونة والسرعة، إضافة عن طابع السرية وميزات أخرى.
ومما يؤكد أهمية التحكيم التجاري الجديد أن الحكم الصادر عن المحكم أو المحكمين أو هيئة التحكيم يصبح حكمًا نهائيًّا واجب التنفيذ الفوري، وهذا ما نصت عليه صراحة المادة الأولى من النظام؛ فالمنظم السعودي أكد أن اتفاق أطراف العلاقة القانونية هو الأساس لنشوء التحكيم، سواء كان شرطًا أو مشارطة؛ فالمشرع منح أطراف النزاع المحتمل حدوثه مستقبلاً الحق تنفيذًا لإرادتهم أن يحيلوا نزاعهم إلى التحكيم الذي يصبح بموجب النظام الجديد حكمه نهائيًّا.
والله ولي التوفيق.