د. حمزة السالم
الإبداع يخلق عند الغير ممانعة ذات دوافع غريزية قوية، أصل قوتها هي فطرة البقاء. فما الحسد والغيرة والتنافس والنهب إلا دوافع غريزية تلبي تحقيق فطرة البقاء. فالممانعة لغير المألوف لا يجب استنكاره، فهو أمر فطري ولكن يتميز العظماء بحسن التعامل معه.
والعظماء ندرة في الأمم ولهذا أصبحت الابتكارية نادرة، فكانت قليلة معدودة عبر التاريخ. وكذلك، فالإبداعية نادرة وذلك في أن كون أصل فكرتها بسيطة، ولكنها لا تخطر على بال أحد من الناس، كإبداع إيجاد الصفر. حتى إذا ما قُدمت الفكرة الإبداعية، وجدها الناس سهلة ميسورة، فإن قدروا على بهت صاحبها ومن ثم الاستيلاء عليها فعلوا، وإلا ضحوا بها تلبية لفطرة البقاء.
ولهذا لا يتأتى لثقافة تبني الإبداعات تحصيل مكان في المجتمعات المتخلفة، ولهذا تخلو هذه المجتمعات من الإبداعات.
ففي المجتمعات المتخلفة، تتسع الفجوات الفكرية بين المُلقي والمُتلقي، مما يُشكل عاملا مهما في إحباط أي فكر تنويري تجديدي ما لم يصبر عليه صاحبه ويعض عليه بالنواجذ. ولهذا فأي مشروع متقدم إبداعي، سيصعب على الناس اليوم فهمه ما دام في حالته التنظيرية، فيظلوا يقاومونه حتى يروه في واقعهم الملموس تطبيقا حيا، مؤثرا في حياتهم.
والاقتصاديات الناشئة تربة خصبة بكر للابتكارات، لا يدركها إلا أبناؤها. فالحاجات كثيرة، والموارد المهملة مضيعة، والحاجة أم الاختراع. والمجالات مفتوحة في الاقتصاديات الناشئة فما من مزاحمة، ما لم يسيطر التخلف على هذه المجتمعات، والحد الضابط للتخلف هو تحجيم العقل بالانهزامية أمام التazظير الغربي.
والإبداع لا يمكن أن يتحقق بقصر النظر على نتائج وقوع الحوادث لا أصولها. لذا فالمبدعون هم الذين ينظرون إلى حقائق أصول الأشياء -الحادثة أو التي ستحدث- والتي لا تكون ظاهرة للعيان، -لا لنتائج الأحداث- ولهذا فقليل من يفهمهم. ذلك لأن خواص الناس، عادة، ما يتجادلون ويتناظرون حول الحوادث الناتجة عن حدوث الأشياء أو وقوعها، فلا محل للإبداع بينهم. والبسطاء تبع لما يفهمون، وهم الغالبية الساحقة فيُسلمون عقولهم للخواص، فيضيع الإبداع بتضييع المبدعين.
وبغض النظر عن صحة النقل لهذه الراوية، إلا أن مقولة قائد شلة من الفلاحين الأمريكان -الذين أثاروا الطلقات الأولى ضد البريطانيين- قد أعجبتني فأتيت بها هنا خاتمة جامعة شارحة للمقال.
فقد سأل الابن الصغير أباه قائد مليشيا من الفلاحين فقال الصغير: كيف يا أبتي يُكتب لنا النجاح، ونحن نقاوم ونتحدى أعظم جيوش العالم عدة وعدادًا، وأحسنها انضباطًا. فأجابه أباه -الذي كان هو أول قتيل في الثورة-: يا بني، البريطانيون جند يأمرهم قادتهم فينفذون، دون قناعة، أما نحن فيُبين لنا قادتنا السبب، فنقوم بما يلزم لتحقيق غرضه، لذا فالجندي منا يفوق عشرة من أبطالهم وقادتهم.