د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
تحكمنا نظرية «إما. أو» فتكاد تُلزمنا بمسارٍ غيرِ آمنٍ نُضطر فيه إلى الانعطاف يمينًا أو يسارًا كمن تُوقفه طريق مسدودة دون منافذَ تأذن بالاختيار أو حتى بالاحتيار، وكذا تُجبرنا ثنائيات «الأنا والآخر» و«الخير والشر» تحت رايةٍ أُحاديةِ الهوى والهُوية وكأن الألوان تُختزلُ في الأبيض والأسود متجاهلةً المساحات الرمادية التي تسعُ الذات والسمات، وتتيح التفكير الحرَّ في كل الاتجاهات، وتُلغي متكأَ التطرف الذي قسم الأرضَ إلى «فسطاطين» والناسَ إلى «فريقين» دون أن يرأفَ أو ينصفَ من يرون عقولَهم خارجَهما.
** ستقودنا هذه المقدّمة إلى تقرير ألاّ معنى لاستفهامٍ يسائلنا عما يجتذبنا أكثر: المكانُ أم الزمان؟ الحقائق أم الأوهام؟ الاستنساخ أم الانفتاح؟ إذ أسئلة الثنائيات لا إجابة عنها؛ فما الليلُ بأجملَ من النهار، ولا البحرُ أصفى من القفر، ولا التليد يُغني عن الجديد، ولكلٍ منها إيقاعُه وموقعُه في اللحظة التي يعمرها وجودُه دون أن يقتنصَ مدار سواه؛ فالتجاور كما التحاور قدرُ الثنائيات منذ الأزل، والحياة ليست مرميين متقابلين لا يستطيع اللاعب تسجيل أهدافه فيهما بشكلٍ متوازٍ عادل.
** لنتجاوز الكرةَ والكرْهَ الذي تغرسه في أعماق شاب وكهل؛ فلم يستطع الزمن ولا الوعيُ مسح خطوط انتماءاتها في أذهان المتعصبين لها، ولا حلَّ معها سوى التعايش والمسايرة وإبعادِها عن دوائر النقاش وإن كان الأمر صعبًا وسط ضجيج الإعلام التقليدي والرقمي الذي يقتات من ملء الفراغ وتسطيح الدماغ، لكن الجانب الإيجابيَّ أنها لم تتجاوز الأقلام والحناجر، و«التربة» كما «التربية» مسؤولة ومُساءلة عن إطفاء جذوة الخلافات بين الصغار كي لا يشقوا بها وهم كبار.
** ستبقى المستديرةُ بين الأقدام؛ فلا منتصر ولا منهزم حقيقيَّين، والعالمُ أجمعُه يشهدُ جنونها فلسنا بِدعًا فيها، ولكن المعضلة في تعصب ذوي العقول لقبائلهم ومذاهبهم ومناطقهم بما يُلغي الطرف الآخر ويُجذِّر ثنائياته، والقراءاتِ المتعدِّدة لحكايات التأريخ ومسافات الجغرافيا ومعاني الحق وأهواء الخلق كفيلة بتشظية المُقسَّم، ويفجؤنا - وقد يفجع بعضَنا -أن نقرأ كُتّابًا -اصطُلح على تسميتهم «صَحويين» أو «تنويريين»- وهم يُقلبون صفحات التأريخ وينقلون رواياته المشوّهة والمتحيزة وربما المكذوبة ليُثيروا ويستثيروا ويتجدد بهم العداء الكامنُ بين شيعيٍ وسنيٍ وماتريدي وأشعري وقبوري وقبَليٍ وإقليميٍ وقومي، وكأننا لم نتجاوز -بأربعة عشر قرنًا- الجملَ وصفين والحَرة وكربلاء.
** لن ندلف إلى نظرية المؤامرة التي توقد الخلافات الماضوية فنستفهم: ما الذي نجنيه من وأد التعددية الطيفية التي لا ترى الكون ثقبًا أسود؟ ولم لا نستعيد الإمام نجم الدين الطُّوفي 657-716هـ صاحب نظرية «المصلحة والنص» حيث رُوي عنه وصف نفسه:
حنبليٌّ رافضيٌ ظاهري
أشعريٌ إنها إحدى الكُبر
** سنجني كثيرًا ولن نتمزق كي تتناقض أوعيتُنا المفكرةُ، بل سنترفق لنوقظ دواخلنا المذكِّرة أننا لسنا العالَمَ كما العالَمُ لن يستوعبَ من يحتكم إلى: «إما. أو».
** الحياةُ أطياف.