رمضان جريدي العنزي
المحرضون ضدنا لن يفلحوا أبداً، لأنهم يسيرون بممرات ودهاليز لا أول لها فيها ولا آخر، يركضون من عدم إلى آخر سواه، يبحثون عن قرميد ولآلئ وبلور وكريستال وماء وعشب أخضر ووردة حمراء، يطيلون النظر للسفوح العالية، يرمقون أفقاً مفتوحاً تتزاحم فيه الأنجم، لليل عندهم بروق معفرة بالوجل، وللنبوءة عندهم لون الرماد، لأصواتهم نبض هادر، لكنهم يرمون حكمتهم في لهيب الغطرسة، يبحثون عن أعشابهم الصغيرة اليانعة في مجاري السيول الكبيرة، يحاولون ترقية أنفسهم بتنهيدة فراشة، لكنهم لا يعرفون بأنهم يحرقون أنفسهم بنيران الحطب المتوقد، عبثاً يحاولون إيقاظ أسمائهم في الشوارع والبراري والمحطات، باستماتة يزرعون البذور، وبعناد العناد يمنحون أنفسهم هبة لنار الأعاصير القادمة برقصة غير بارعة وليس لها بريق، المحرضون ضدنا ليس لهم شمس دافئة ولا فصول تلمع برائحة الأماني، لا نبض للحياة في أرواحهم غير الفاصلة بين الولادة والممات، هم يتدثرون بعزلتهم في أقبية الليل الطويل، يحاولون أن يضاجعوا السحابة، لكنهم لا يقوون على الحراك الجميل، يستميتون في أن ينحتوا أسماءهم ويركلون إلى الخلود في شهوة محيرة، لكنهم يتعرون من لحاء نقيضهم وجرتهم المليئة بالفجيعة وبالنعاس، لرغباتهم الجائعة تلوث، يحاولون بعجز نسف الأمكنة، لهم مسرحيات هزيلة وإشكاليات بائنة وقصص محزنة وروايات لها لون السواد وشعارات تهييج وتأليب، لا يحاولون أن يصحوا من غفوتهم ولا يحاولون أن يعودوا إلى رشدهم أو أن يرمون الماضي المؤلم خلف ظهورهم، لكنهم يصرون أن يكونوا حماليين للغدر والدمار والخراب وفاتحة للنهايات الخطيرة، أبوابهم موصدة ولهم إنزواءات مثل عنكبوت ينسج أحلاماً كبيرة قد تشل أيامه الآتية، يتحركون بصوت يشبه صوت ريح أعاصير محملة بالصفير والضجيج، لكنهم بلا رشاقة ولا حذر، هم يتخيلون بسقم، ويحلمون بفاكهة رمان وماء عذب ونيزك يشع بهاءً وبريقاً، وعطراً فاخراً مغايراً، يتصورون بأن مفتاح الحل بين أيديهم لكنهم لا يحدقون بحدة، في عيونهم غبش وبعض ماء أزرق، لا يقيسون بدقة بعد المسافات، ويضعون أنفسهم أمام النوافذ الكبيرة لتصفعهم الرياح العاتية بقوة وبلا هوادة، التمييز يصعب عندهم بين الرغبات الجامحة والأحلام المنفية، لا شيء يزعجهم غير تلك الأصوات المروعة التي تديم زخم القلق على هياكلهم الزجاجية الراقدة في الحدائق الخلفية العتيقة، حتى نزت أجسادهم بالكثير من العرق والخوف،تلة الورد الأبيض التي غرسوها شاخت، لأن أرضهم طافحة بالملوحة حتى صارت بلا خصوبة، لديهم المحراث الذي يقلب الأرض، لكنهم لم يتأملوا يوماً خيوط البخار الصاعد تواً من الأخاديد الداكنة المنتفخة مثل جرح، أبخرة الرغبة المودعة في أجوافهم لها رائحة غير نقية لأن الهواء الناقل لها بغيض، فشلت كل محاولاتهم لإنتاج التفاح والورد وأعواد القصب، وأخذوا يزرعون براعم صغيرة مبهمة خطيرة في أول الربيع سرعان ما يدهمها الشحوب في آخره، يأتيهم الطوفان بشكل بطيء حتى يتمكن منهم فيصبحوا مجرد عيدان رقيقة مغروسة في أرض بوار، فيصبحوا على ما فعلوا نادمين، المحرضون ضدنا على الرغم من هذا يحاولون أن يصطنعوا فجوة من اللا مبالاة التي هي شيء آخر لا علاقة لها بتركيب الأدمغة وقوة الذاكرة وبلاغة الحكمة وبعد النظر، المحرضون ضدنا حتماً سيشيخون باكراً مثل شجرة واهنة حتى لا يعد بها وحولها زهور بيضاء ولا زوار منتظمون، ولا تحوم حولها فراشات ملونة ولا نحلات، وحدهم سيخفقون بأجنحتهم مرة ومرتين وثلاثاً وربما أكثر وبعدها سيستقبلون العزاء الكبير لنهاياتهم المحتومة، ستكون مواساة قاسية لمواسم ضجيجهم المر، هكذا تبدو الأمور جلية، المحزن أن لا أحد منهم يفكر بغرس شتلة ورد نقي، بقدر ما هم منشغلون بزراعة أشوك وحسك وأشياء أخرى غامضة وبشعة ويصعب تخيلها أو تصورها، يفكرون كثيراً بإعادة حرث تربة لنيتة بغيضة، يقلبون التربة ولا يحاولون أن يجعلوها تتنفس هواءً جديداً، إنهم يحاولون تقليبها كي تصبح في نظر الآخرين ناعمة تحتضن الشتلات، اكتشفوا أن هناك أعداداً لا تحصى يمكن استنباتها حتى في ظروف المناخ الصعبة يمكن الاستعانة ببيت زجاجي يحميها، لكن عليهم أن يفهموا بأن الزهور لا تطالب أبداً بثمن للبهجة التي يشيعونها، أن عليهم أن يكونوا حذقين لأن ما زرعوه يعد خطأً فادحاً بوسع المرء أن يتلمس بتفرد جذعه الخارجي، أن ثمة أشياء أكاد أحسها يشيعها هؤلاء المرحضون في قلب حديقتنا الواسعة الناصعة والبهية، لكن علينا أن نترك البلاهة والخدر والتراخي حتى لا نسقط في اغواءاتهم العميقة، إن علينا أن ننصت لدواخلنا في لحظة هادئة بمشاعر متوازنة بما يكفي لاكتشاف تلك الحكمة الخجولة المتوارية خلف أقنعة التوتر السائد لدينا، حينها سنكتشف أن اليقظة واجبة، وأن التفاؤل المفرط لا يليق بهؤلاء القابعين في البعد، النائمين في فنادق التأليب، العاملين على شتاتنا، والمنظرين لهدمنا، والبشرين لبعثرتنا وتمزيقنا، إن الأمر يستحق أن نشقى ونتعب ونسهر من أجله حتى ننام ساعتها بهدوء وسلام ودعة كما ينام الأطفال، وحتى لا نحفر حينها أنفاقاً في أرض السهاد الطويل، مرددين مواويل الحسرة والندم والعتاب.