د. عبدالرحمن الشلاش
الجهل لا يعني عدم المعرفة، فالمعرفة المجردة لا تحمي من الجهل. القلة من المجتمعات ربما لا يملكون المعرفة لكن الغالبية العظمى من البشر يعرفون فمصادر المعرفة في متناول الجميع ورغم ذلك نجد من يعرف يخطي ويتجاوز ويتصرف بحمق فأين تكمن المشكلة؟
لماذا نجد كثيرا من الأشخاص المتعلمين أسوأ من الجهال ويتصرفون بطرق يرفضها الجميع؟. أغلب من قاموا بالهياط الاجتماعي فأهدروا الأموال الطائلة بالبذخ والإسراف يعرفون أن هذه سلوكيات خاطئة ولا يقرها دين ولا عقل فلماذا يتصرفون بهذا الشكل المقزز؟
الواقع أن هناك انفصالا حقيقيا لديهم بين الفكر والسلوك فما يؤمنون به وما يعرفونه لا يترجم في سلوكهم لذلك تجد من ينتقد من يقطع إشارة المرور يقوم بنفس الفعل عندما يكون في ذات الموقف، ومن يشبع الناس بمواعظه عن الزهد في الحياة الدنيا والتقشف والاستعداد للآخرة يجنح إلى أقصى الطرف الآخر ليسكن القصور ويركب أفخم السيارات ويلبس أفخر أنواع الملابس ويصيف في أشهر المنتجعات العالمية.
بطبيعة الحال الشرح يطول عن هذه العينات لتداخل عوامل كثيرة في تشكيل شخصياتهم ومنها التربية الأسرية وقلة الممارسة لكثير من الفضائل التي تعلموها وضعف التدريب، وربما لأن طرق التعليم النظرية التقليدية أيضا لم تسعف في التركيز على تطبيقات عملية تخرج أجيالا مدربة تتمكن من التعاطي مع كافة المواقف بطرق جيدة وسلوكيات رائعة.
التناقض الصارخ بين الفكر والسلوك أنتج جهالا فضحوا أنفسهم أمام الغير بسلوكياتهم وتصرفاتهم التي تعبر عن قلة وعيهم. هؤلاء للأسف تصدروا المشهد في ظل غياب الرموز الحقيقية للمجتمع من أصحاب الفكر الراقي والسلوك الرائع. حين انشغل العلماء والمفكرون والمثقفون في متابعة أعمالهم في المختبرات والمصانع والمستشفيات وحلقات النقاش والمؤتمرات، وقضاء معظم الوقت في الابتكار بما يعود بالنفع على المجتمع خلت الساحة للجهال يرتكبون الحمق والسفه وكأنهم اعتلوا القمة والتي باتت لا تتسع إلا لهم وحدهم دون غيرهم يمثلون الرأي العام وبالتالي يتابعهم الآلاف، ويدافعون عنهم وعن تصرفاتهم الرعناء!
لذلك لا غرابة أن تجد أحدهم يعتبر المرأة عاراً وآخر يدعو لضربها. هؤلاء يعرفون أحكام الدين لكن سلوكياتهم على العكس تماما. تنقل هذه الآراء الخرقاء عبر الفضاء والشبكة العنكبوتية وكأنها تعبر عن رأي شعب كامل، بينما أغلب الشعب يرفض هذه الآراء ويستهجنها ويرى أنها لا تمثل سوى أصحابها.
أعتقد أن هناك قصورا واضحا من أجهزة الإعلام والقائمين على الفعاليات المختلفة من معارض ومهرجانات ولقاءات في استقطاب نوعيات لا تضيف إلا لذاتها وأرصدتها الزائفة. لو دققت في سير كثير من المتسلقين ستجد منهم من جماعة «هلكوني» عدد غير قليل، وهم حملة الشهادات المضروبة والصادرة من الجامعات الوهمية، أو من خريجي حلبات التفحيط عندما تابوا من أفعالهم الرديئة تفرغوا لتصدر المشهد لينقلوا للأجيال جزءا من تراثهم القديم أيام الشقاوة. فتحت الأبواب لجهال العصر واسعة وبلا قيود وبتنا نجني من وراء ذلك أسوأ النتائج.