د. جاسر الحربش
مسألة تقديم اللاعب والمطرب والراقص على العالِم والمفكر بضاعة مستوردة من الغرب بسبب أهمية صناعة الترفيه للسياسي لديهم أثناء الدعايات الانتخابية وعدم أهمية العالم والمفكر لذلك. نحن استوردنا هذه البدعة وطبقناها بطريقة أسوأ من الذين اخترعوها. للمقارنة فقط تعتبر الرياضيات أم العلوم العقلية وكرة القدم أم الرياضات الترفيهية. لنفترض وطناً ما فقد في نفس اليوم اثنين من رموزه، أحدهما عالم في معهد الرياضيات الوطني والآخر لاعب موهوب في المنتخب، كيف يتعامل الإعلام مع الخبرين؟ الإجابة معروفة، خبر وفاة اللاعب يكتسح الصفحات والشاشات وأحاديث المجالس، وخبر وفاة العالم ينشر في سطرين على الصفحة الاجتماعية في الجرائد ولا شيء عن وفاته في الشاشات التلفزيونية. لا غرابة في اختلاف الموقفين لأن ذلك مجرد استمرار مبرمج بلؤم إعلامي لوضع كل واحد من الرمزين أثناء الحياة اجتماعياً ومعيشياً وحتى في المحافل الرسمية. يعيش العالم فقيراً ويموت مجهولاً، أما اللاعب فيعيش مرفهاً مترفاً ويموت معزّزاً مكرّماً تبكيه الديار لفترات طويلة.
هل هذه خصوصية في المجتمع السعودي فقط؟ كلا فهي خصوصية عالمية ولكن مع بعض الفروقات النوعية في الحياة وبعد الممات بين مجتمع لديه نقابات أو جمعيات نفعية مهنية تدافع عن حقوق منتسبيها وتهتم بهم مقابل مجتمع ليس لديه شيء من ذلك لامتناع الترخيص.
عاطفياً تحزن الشعوب أكثر لفقدان أحد رموزها الترفيهية (الطرب التمثيل اللعب)، رغم أن البدائل في السوق طوابير طويلة ومتنوِّعة ويتكفّل الإعلام الرسمي والتجاري بالتدوير وحتى للاستيراد من الرموز الأجنبية. لكن الحزن الشعبي لفقد مواطن مبدع في الرياضيات، التقنية، الهندسة، النانو، الطب وهكذا لا يتعدى أوساط زملاء الفقيد وأقاربه وسرعان ما يطويه النسيان رغم أن الفقيد بمقاييس القيمة النوعية للوطن يصعب تعويضه لندرة الموجود. الناس في ذلك يقبلون معادلة غبية تستسهل خسارة ما يزيد في مناعة وتقدم مجتمعهم ووطنهم، فيكون طرف المعادلة الأهم والأكبر لهم يمثّل القيمة الترويحية والاستمتاع بما هو موجود، ويكون طرف المعادلة الأقل أهمية هو القيمة العلمية الإنتاجية والفكرية التي تحمل كل الطوابق التي فوقها مثل ما تحمل الأساسات كل ما يتراكم فوقها من أدوار وأثاث وسكان.
إذاً ما هي القيمة التي بدونها تضعف الحصانة الحضارية للفرد والمجتمع والوطن؟ إنها بالتأكيد القيمة التي تمثّل مجموع الناتج التطبيقي لمخرجات الأبحاث والمعارف والعلوم، فإن كانت مهملة وهشة أنتجت حصانة هشة لا تصمد أمام التحديات، وما عدا ذلك سوى مساحيق التجميل للحياة.
فهم المعنى في هذه المعادلة يحدد الفرق بين مجتمعات يسوق إعلامها المطرب والممثّل واللاعب كأهم الرموز الوطنية، مقابل مجتمعات يحصل فيها كل طرف من المعادلة على نصيبه من التقدير والعيش الكريم حسب الأهمية.
عندما يكون العويل الاجتماعي بفقدان نجم ترفيهي أعلى من الانتحاب لفقدان أحد الأعلام العلمية، لا بد أن في الأمر معادلة خاطئة من الأساس كان فيها النجم الترفيهي ثرياً ومترفاً، والعالم يعيش على الكفاف النسبي في مؤسسة علمية تحتاج لتبرعات المحسنين للبقاء على قيد الحياة.