د. خيرية السقاف
ربما يهرب الناس من أفكارهم، ربما يستغرقون معها، ربما تأخذهم لمكان يرغبون إليه، أو حاجة يتمنون قضاءها، أو شيء يمتلكون، أو موقف يتخذون..
وربما يتخلصون منها باستفاضة في نوم، أو يمعنون في انشغال، أو يلوذون لمخارج بعيداً عنها..
الأفكار رفيقة الحركة، والتفاعل، والرؤية، والتأمل، والقراءة، والإحساس، والعواطف، والآلام، والمواقف، والتعايش، والطبيعة، والتفكر، والاستلهام، والاستشراف..
في المتناقَض، والمتفق، والمُرضي، والمرفوض، الطيب، والسَّيئ، المدهش، والغريب، و، و، و..
الأفكار طحين سنابل الذات تنمو في تربتها، تنضج بحرارة شمسها، تطحن في رحاها التي لا تهجع، وتغدو عجين ما تقول، ما تتكلم، ما تفعل..
الأفكار للمبدعين ما يحبِّرون من كلمات، ما يرسمون من طموحات، ما يفحصون من بقايا، ما يغرفون من نهر، ما يتفرَّدون من إضافة بألوانهم..، باستثناءاتهم، بأسمال رؤاهم المغتربة عن الاعتيادي..
تخيّلت أن أفكاري التي استضيفها في مستودع جوفي، معزَّزة مكرَّمة، لا أهرب منها، ولا ألوذ عنها، ولا أغفل طرْقها البندولي، ولا أهرب من طيوفها المتزاحمة، أعزها مزيجَ حبري، وبوحَ عقلي، وثمار حسي، أحترمها فما نأت يى، ولا تدنت..
و، و، وبكل الذي يعرفه عن الأفكار الخاصة، والعامة بمختلف ألوانهم، وبتنوّع أنماط تعابيرهم، وأشكال أساليب بوحهم، وبتنوّع طرائق عرضهم، وتمايزها..
تخيلتها معادلاً ناطقاً، ذات حس، ومشيئة، وموقفاً، تقف أمامي، تأخذني من تلابيب استغراقي، من عميق دهشتي، من بوتقة تساؤلاتي، من لحظاتي المكتنفة طيوفها، إلى سطح مكتبي، إلى قراطيسي، وأقلامي، إلى محبرتي، ومصباحي، إلى قطتي الوديعة، ونافذتي المترعة بالخضرة، وممشاي الياسميني الموقَد بنسيمه، إلى وجه «نوَّارة» الساطع في كل زاوية، إلى «صغاري» المولعين بطيفي، إلى «ورق» صحيفتي الأثيرة، إلى «كتابي» المقدس، وإلى أصوات «رفيقاتي» الموغلات في الوفاء، المقتربات بالحضور، تأخذني أفكاري لمكانها، لأكون فكرتها، وتتحول هي ذاتي الهادئة، صمتي المتأمل، انزياحي عن الغوغاء لبراح فتنة الفضاءات، لمخزون المخيلة المتجدد مع أنفاس الصبح، لنسيم الضحى، لحشرجة ورق شجر العصر، لشفق الغروب الموحي بالنهايات، المنذور بالبدايات..
هذه الاستضافة أيمكن أن تجعلني «فكرة» وتتطوَّف بي فكرتي في آماد لم أكتشفها بعد؟!..
ويبقى للفكرة رونقها الذي يعصى على الأنسنة، حين تختص برشاقة الحضور، وأريحية الانهمار، محلقة بغيب، حاضرة بتجسيدها كيفما يشاء لاقتناصها الإنسان في القالب المتاح له!!..