عبده الأسمري
لا زلت أتذكر اليوم الأول التي كتبت فيه أولى كلماتي على مقاعد الدراسة ثم ما لبثت حتى بدأت أتفنن في كتابة واجبات مادة «المطالعة» والخط العربي والتعبير آنذاك.. بدأت بقلم رصاص كنت أتلذذ برائحة انبراء الخشب من مقدمته ليكون رأسه كالسهم يخترق أوساط الورق.. في حينها كان كل شيء أمامنا مسرحا للكتابة ابتداء من سبورة الدرس «الخشبية» و»النيون» التي كنا نختلس الوقت للتعاقب على الكتابة عليها ومرورا بكشكول كنا نخصصه لتسجيل «أحلامنا وأمنياتنا وآمالنا» على طريقتنا وانتهاء بما نكتبه في «دفاتر» الواجب والفصل وحتى خربشاتنا البريئة على كفوفنا «الصغيرة»..
كبرنا وبدأنا نقتني «أقلام» الحبر التي كانت تعبأ من محبرة نتقاسم محتواها أيام الاختبارات ثم نسدل الستار على الفصل الدراسي لنأوي إلى «ركن شديد» لعلنا نضع هم الدراسة جانبا لنبدأ في اصطحاب دفاترنا المحررة من وطأة المناهج والتي باتت مفتوحة لخواطرنا ومخاطرنا في آن واحد لنكتب فيها الحلم والأمنية ونرصد فيها «الهوايات» وأحيانا «التمتمات»!!.. والتي يكون مصيرها ما بين «ثورة» تمزيق نحاول من خلاله هزيمة «الاتجاه» الخارج من أسوار القناعة أو «تشطيب» مبالغ فيه حتى نواري سوءات «مخالفاتنا النفسية وخلافاتنا الذاتية».
في أيام الإجازات كان وسيظل «حظيظ» من كتب و»محظوظ» من استكتب.. فمن نشأ مرافقا قلمه متوافقا مع همته اعتلى منصات «العلا» وظل سابحا في «فلك» المتون باحثا عن إطارات التفوق لتحيط صورته من جهاته الأربع وبقي سائحا في «أفق» الشؤون مستبحثاً عن مسارات «التأثير» لترافق أثره من واجهاته المتعددة.
تعلمت في بلاط صاحبة «الجلالة» حظوة «الكتابة» وسطوة «الأحرف» وهي تختال معلنة «كسب الرهان» و»جودة البيان» لتكون اليقين المتفق عليه والمستفاد منه والمقتبس فيه لتقيم «صرح» القيمة وبوح «التنافس» و»روح الانتصار».
الكتابة ليست مجرد فعل سلوكي يملأ الأوراق بالكلام والحديث المترجم بقلم أصيل أو لوحة مفاتيح اليكترونية بائسة ولكنها سلوك حياة وأسلوب عيش ومعنى تعايش بها نعبر ومنها نعتبر وفيها نجبر أنفسنا ونتدبر محطاتنا.
الكتابة هي المادة «الخام» لكل إنتاج أدبي أو نتاج معرفي لذا تظل «سيدة الثقافة» و»ملكة التعلم» و»قائدة المعرفة» وهي الاحتفال العلمي الذي تعانق مع ذواتنا فكان سبيل البوح وطريق الإدراك ومجال التواصل.
علمتني الكتابة.. كيف أراعي «الحرف» وأصون «الكلمة» وأحفظ «العبارة» وأستلهم «النص» وأرافق «المعنى» وأسكن «الهدف» وأشجع «الأسلوب» حتى أسمو بكتاباتي إلى حيث «الانفراد» بعيدا عن التكرار والتكرير.
علمتني الكتابة أن أكون صاحب «رسالة» ومالك «همة «وقائد «سلوك» ورفيق «مرحلة» حتى أكتب وأنا أعيش «الدور» الذي من أجله احترفت الكتابة وتشرفت بالإذعان لها حتى يكون صوتي «صدى حرف» وقولي «ميثاق شرف».
علمتني الكتابة.. أن أكون أنا بدون غرور «الأنا» وبلا نرجسية «الذات» وإنما (أنا أكتب إذن أنا موجود) فالكتابة تشكل دهرا للثبات ومهرا للإثبات الذي يجعل المواقف صامدة بوحي «القلم» وسلطنة «الكلمات» وهيمنة «العبارات».
علمتني الكتابة.. أنها تعطي بقدر ما يتم احترام «كيانها» وتقدير «كينونتها» فهي خطاب للتنفيس وجواب للنفس وأداة للتعبير وعنصرا للعبر ولا بد أن يكون هنالك تجاذب بين الكتابة وبين من انتمى إليها في براهين الحقائق وأدلة الوقائع «هاويا أو محترفا» حتى نرى الاتزان في الطرح والتوازن في البوح.
هكذا علمتني الكتابة.. أنها معادلة مذهلة من ردود الأفعال تحت عنوان «الفكر» ومن وجود الامتثال خلف لواء «التفكير» وأنها رمز «الفلاح» الذي أسس صمود «الهوية» وأزال جمود «الأمية» ووقع عقود «المهنية» في العلم والعمل وفي المنطلقات والنتائج.