قبيل ظهر يوم الأربعاء الموافق 13-7-1440هـ، وأنا قادم للرياض بصحبة والدي الكريم من سفر قصير، وبعد ما أنهى الوالد مكالمة واردة فجعت بقوله لي بصوت فيه الحزن: (أحسن الله عزاءك في أبي ناجي)، فصابني الكمد، وخيم الحزن في الوجدان على رحيله، ولحاقه بكوكبة الكرام حقًا، الراحلين من هذه الدنيا، إنه الشيخ الوقور، والعابد الصالح، والشهم الكريم: أبوناجي عبدالرحمن بن ناجي بن عبدالرحمن بن العلامة الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله رحمة واسعة.
إمام وخطيب جامع قرية الغيل التابعة لمحافظة الأفلاج، والتي تبعد عن وسط المدينة أربعين كيلو.
أيا أبا ناجي المحبوب فقدكم
مؤرق ولقلبي كاد يقطعه
يا الله ماكنت أتخيل فراقه رحمه الله، أمات أبوناجي؟ ما نعرف الغيل إلا به، إذا ذكرت الغيل فإنما نذكره رحمه الله، فهو آخر من بقي فيها من الأقارب، كان فيها جد الوالد رحمه الله، الشيخ حمد بن العلامة الشيخ سعد بن عتيق، ولكن توفي رحمه الله وأنا ابن ست سنين.
رحل أبوناجي وفارقتنا تلك البشاشة والابتسامة،
ضاق الصدر عندما توفي رحمه الله، والأشد من ذلك الذي ينكأ في القلب أن بموته رجعت بي الذكريات لأكثر من عشرين سنة.
كم جلسنا معه؟ كم تسامرنا نحن وإياه في زيارات وولائم متبادلة في المنازل أو في بستانه بين نخيله؟ أنس ولذة بالجلوس معه، قل أن تجدها عند غيره.
يا أبا ناجي رحلت وما رحل
طيف ذكراكم وأيام مضت
رحمك الله رحمك الله رحمك الله
كم رأيته مبتسمًا وضاحكًا حينما نتذاكر ويقص علينا أخبار الماضين ممن نعرفهم من الأقارب وغيرهم؟
وكم رأيته وقد اغرورقت عيناه بالدموع حينما يعتذر بعض الأحباب لضيق الوقت عن الاستجابة لدعوته للوليمة؟ أو حينما يلاقي بعض الأقارب بعد انقطاع طويل؟
تلك السنون مضت وراح لذيذها
وبقى لها بعد الرحيل أليمها
ولكن كما قال شقيق الوالد العم الشيخ محمد في رثاء جدي الشيخ سعد رحمهما الله:
الحمد لله أمر الله ذا قدر
وهل نجاوز ما في اللوح مستطر
ولد في عام 1348هـ، ونشأ في قرية الغيل، كان وحيد أبيه من الذكور، ولكن بارك الله فيه، نشأ منذ صغره في طاعة الله، كما نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحدًا، فقد حفظ القرآن وكتاب التوحيد عن ظهر قلب قبل أن يبلغ الحلم في الثانية عشرة من عمره، صعد منبر الجمعة وخطب بالناس نيابة عن والده قبل أن يبلغ الحلم.
رحل للرياض للدراسة في المعاهد العلمية، وللحضور عند العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وغيره من العلماء رحمهم الله، مدة ثلاث سنين تقريبًا، ثم رجع للأفلاج لوالده، ثم رحل مرة ثانية لمواصلة طلب العلم، ولكن لحاجة والده له طلب رجوعه للأفلاج وللغيل بخاصة، فرجع وبقي سندًا لوالده رحمهما الله، وما رأيت من بر أبنائه به إلا من أثر بره بوالديه وبأخواته فيما نحسبه رحمه الله.
تولى إمامة وخطابة جامع الغيل بعد والده لأكثر من خمسين سنة، إمامًا في الفروض والجمع والأعياد.
لما فتحت المدارس النظامية، وفتحت في الغيل مدرسة عمل فيها مديرًا، وكان عند وفاته من أقدم مديري المدارس في المملكة.
تميز رحمه الله بالحفظ القوي لكتاب الله، سمعته مرة يقرأ من حفظه، فتعجبت من سرده لآيات القرآن، وقوة استحضاره، وكأنه يقرأ والمصحف مفتوح أمامه، فأسأل الله أن يكون شافعًا له، رجل قلبه معلق بالمساجد، حتى إنه في آخر حياته رحمه الله رفض استخدام علاج لئلا يعيقه عن المكث في المسجد، لا يترك قيام الليل، فهو عنده غذاء لا يستغني عنه، يحصل كثيرًا عند رجوعه من سفر بعيد ألا يصل لمنزله إلا في ساعات متأخرة من الليل قبل الفجر بساعة أو ساعتين، فكان من معه من الشباب يلجؤون لفرشهم منهكين، وأما هو فيتوضأ ويقوم الليل!
كان يتابع بين العمرة والعمرة
كان قارئًا للكتب، فإذا رأى كتابًا اطلع عليه، وأبحر فيه، ونسي من حوله.
كان رحمه الله معروفًا بالكرم، فليس ممن لم يعرف بالكرم إلا بعد كثرة المال، بل كان يقري الأضياف على كل أحواله، في حال السعة والضيق، لا يتأخر عن ذلك أبدًا، أذكر أنه لما أراد إعادة بناء بيتيه وهدمهما، وانتقل لمنزل آخر مؤقتًا، كان على عادته في استقبال الضيوف وإكرامهم، زرته بصحبة ابنه محمد قبل موته بخمسة أشهر للسلام عليه على عجل، فما كان منه إلا أن طلب مني البقاء لتناول الغداء، فاعتذرت منه، فلم يسمح لنا إلا بعد أن قبلت جبينه طالبًا قبول العذر، وحلفت له يمينًا لآتينه مرة أخرى، والحمد لله تم ما وعدته به.
لله ما أكرمه، ربما ملأ حظائره بأطيب الأغنام، يجلبها أحيانًا من الرياض، لا للتجارة، ولكن استعدادًا للضيوف والزوار.
يعرفه الفقراء والمحتاجون، يقضي حاجاتهم، ويقف معهم، ويوزع عليهم الصدقات، وبعضهم يجري له صدقة شهرية من حسابه، غير الذي يوزعه مما يأتيه من المحسنين، وكل هذا لا يتفوه به أبدًا، ولا أذكر أنه أخبر عن شيء من ذلك، فهو لا يظهر شيئًا من أعماله الصالحة، وإنما يعثر عليها محبوه وأقرب الناس له، وبعضها لا يستطيع كتمانه من كثرة المحتاجين عنده.
ربما يحتاج بعض البادية لمبلغ من المال فيأتون له بشيء من الحطب فينزلوه في نخله، فيشتريه منهم مع عدم حاجته له، لكن يعلم أنهم محتاجون فيعطيهم ثمنه وأغلى من ثمنه!! ويضيفهم مع ذلك.
كل جمعة يصلي معه جمع من أهل الهجر والبوادي وغيرهم، ويتناولون عنده الغداء، وقديمًا كانوا من صباح الجمعة وهم عنده حتى يصلوا الجمعة، ويأكلوا الغداء، وهذه ولله الحمد عادة عنده وعند من أدركتهم في الغيل من الأقارب، وهم جد الوالد الشيخ حمد بن العلامة الشيخ سعد بن عتيق، وعند الوجيه عبدالله بن محمد بن العلامة الشيخ حمد بن عتيق، كلهم على هذه الطريقة غداء للضيوف كل جمعة.
مرات كثيرة يحصل لأبي ناجي أن تكون عنده مأدبة غداء كبيرة، وبعد ما يقوم الضيوف من الغداء إذا به يفاجأ بضيف متأخر، قادم من سفر، فيأمر بذبح ذبيحة في الحال، وتجهيز غدائه بسرعة، فإذا جهز قدمه للضيف المتأخر.
مجلسه مفتوح للضيوف
كل وقت
كانت البشاشة تعلو وجهه عند ملاقاة الأحباب والأضياف، يبش للصغير والكبير، يحتفي بالصغير كما يحتفي بالكبير، واصل لرحمه، وخاصة أخواته، ومهتم بهن، فليس لهن أخ غيره، لا يتأخر عن مناسبات الأقارب، ويجيب الدعوات.
دُعي لمناسبة كبيرة تخصني، ولم يستطع الحضور، فما كان منه إلا أن اتصل بي قبل المناسبة بأيام، يقدم اعتذاره وهو في مقام والد وكبير أسرة آل عتيق، وأنا في مقام أصغر أبنائه، ويدعو لي بدعوات مباركة، ولما حصل حريق بسيط في جانب من بيت الوالد حفظه الله، وكان الوالد مسافرًا لمكة، اتصل بالوالد واتصل بي، يسأل عن حالنا وحال الوالدة التي كانت موجودة في البيت وقتها، ويهنئنا بالسلامة، ويحمد الله على ذلك.
إذا زار بعض الأقارب فإنه يسأل عن أهل البيت ويسلم عليهم، ومنهم والدي حفظه الله، فإنه يسأل عن الوالدة ويسلم عليها من وراء حجاب، وفاء منه لوالدها الشيخ عبدالعزيز بن العلامة الشيخ سعد بن عتيق، وما سلمت عليه مباشرة أو عن طريق الهاتف إلا ويسأل عنها، حتى قبيل وفاته بخمسة أيام وكمامة الأكسجين على وجهه.
وفاء وخلق عالٍ، وتواضع لا يستطيعه الكثير من الناس.
ملك الناس بكرمه وبخلقه العالي، أعلى الله درجته في الجنة.
يذهب لمكة في رمضان للعمرة، ثم يرجع وتكون محطته الرياض عند أحد أبنائه البررة، يفطر ويصلي تلك الليلة في الرياض أحيانًا، فصلى معي صلاة التراويح في رمضان أكثر من مرة، فكم أسعد برؤيته بعد انقضاء الصلاة، واستقباله بالبشاشة.
ما أطيب خلقه، إن كلمته وسألته أنصت لك، ثم أفادك بما أعطاه الله، أسأل الله أن يعطيه الجنة. سألته مرة عن جدي لأم الوالدة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن العلامة الشيخ حمد بن عتيق القاضي في وادي الدواسر والأفلاج، وشقيق العلامة الشيخ سعد بن عتيق قاضي الرياض، وطلبت الاستزادة والاستيثاق منه فيما عرفت من عبادته، وطول قيامه الليل، وجمال صوته بالقرآن، وإمامته بالناس، فأجابني بما شاهده بنفسه، أنه يصلي بالناس صلاة التراويح حتى مع كبر سنه إلى أن توفاه الله، وفي صلاة التراويح يختم ختمتين ختمة ليلة عشرين وختمة ليلة سبع وعشرين، وأنه يطيل في صلاة الفجر جدًا، ويقرأ فيها أحيانًا سورة القصص، يقف في الركعة الأولى عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، وفي الركعة الثانية يختم السورة، وفي المغرب يطيلها أحيانًا، ويقرأ فيها مرة سورة لقمان، ومرة سورة الروم وغيرها من السور.
نحسبه رحمه الله أنه ناشئ في طاعة الله، وأن قلبه معلق بالمساجد، ومخفي صدقاته حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، فأسأل الله أن يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ختم حياته رحمه الله بتلاوة القرآن والعبادة، كما نشأ على ذلك فهنيئًا له، فكان قبل موته رحمه الله بعشرة أيام تقريبًا لا يتكلم بشيء من أمور الدنيا، إنما هو العبادة والصلاة وذكر الله تعالى.
أسأل الله أن تكون رافعة لدرجاته في الجنة، وما أقول فيه إلا كما قال أبوتمام:
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضةٌ
غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
أصيب رحمه الله في آخر حياته بمرض السرطان في الكبد، ولم يمهله كثيرًا
ولعل الرؤيا الصالحة تبشر بخير له في الآخرة، فقد رُئيت زوجته الأولى في المنام، المتوفية قبله بعشر سنوات، وإذا بها تخض اللبن فسُئلت عن سبب ذلك، فقالت سيأتينا ضيف، وكانت هذه الرؤيا قبل موته رحمه الله بأسبوع.
مات رحمه الله في الرياض، في مستشفى مدينة الملك سعود الطبية بالرياض ضحى يوم الأربعاء الموافق لليوم الثالث عشر من شهر رجب لعام أربعين وأربع مائة وألف للهجرة النبوية، وصلي عليه بعد صلاة العشاء في الرياض على طريق الحائر بجامع الأمير فهد بن محمد آل سعود أجزل الله له المثوبة، ودفن في مقبرة المنصورية بجنوب الرياض، وقد حضر للصلاة على جنازته ودفنه جمع غفير من الناس، وصلى عليه ابنه الشيخ إبراهيم القاضي بمحكمة الاستئناف بالرياض.
وقد عزى في وفاته الكثير من مختلف أطياف المجتمع، وعلى رأسهم مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، فقد عزاهم ببرقية عزاء، وكذلك مقام ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، وعزى في وفاته سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبداالله آل الشيخ كما عزى في وفاته الأمراء والعلماء وغيرهم من محبيه.
فرحمه الله، وآجرنا الله في مصيبتنا، وأخلف لنا خيرًا منها.
وإني أقترح على بلدية الأفلاج وفق الله القائمين عليها لكل خير أن يسموا شارعًا باسمه رحمه الله، ولعل فرع وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد يتكرمون بإطلاق اسمه على الجامع الذي كان إمامًا وخطيبًا فيه؛ فإنه لم يبق طوال هذه المدة فيه أحد مثله إمامًا وخطيبًا رحمه الله، ولو جعلت وزارة التعليم من تكريمه رحمه الله تسمية المدرسة الابتدائية التي كان مديرها باسمه لكان وفاءً لا ينسى.
يا رب إن أبا ناجي مفارقنا
فكن له راحمًا معليْ له النزلا
هذا ما كتبه القلب قبل القلم، وفاضت به النفس قبل العين، والحمد لله على كل حال.
** **
- امام وخطيب جامع صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالعزيز بعرقة