م. بدر بن ناصر الحمدان
اكتشفت مؤخراً، أنني لم أعد ذلك الشاب اليافع، المسكون بكل مفردات الحياة، هذه هي الحقيقة التي أحاول أن أقنع نفسي بها منذ أن بدأت أستشعر أن العمر قد مرَّ، تلك هي سنة الحياة، وأمد لا بد منه، أنا وأيامي كنا على وفاق كبير طوال مدة الرحلة التي مضت، لكنها خذلتني في نهاية المطاف، لأننا لم نتفق أن تمر بهذه السرعة التي فاجأتني، لقد هربت مني كحلم طفل صغير، وجدت نفسي بين يوم وليلة من جيل سابق، أنا واثق أن هناك خطأ في تاريخ ما، أو أن ثمة سنوات من عمري فُقدت وحُسبت عليّ بهتاناً، ولربما أنني مثل ما قال غروشو ماركس: «علي أن أعترف أني ولدت في سن صغيرة للغاية».
عندما كنت صغيراً، كان والدي مديراً للمدرسة التي أدرس فيها في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، كان شخصية إدارية «جادة» و»منظمة» جداً، وكان ذلك يشكل علي عبئاً كبيراً، ويتطلب مني - قسراً - أن أكون طموحاً، ومتفوّقاً، ومثالاً للطالب النجيب، كوني أحمل لقب «ابن المدير» آنذاك، رغم أني لم أكن بهذه الفطرة، ذلك الالتزام لم يكن سهلاً على الإطلاق، لقد غرس بداخلي «ثقافة انضباطية» مبكرة، ربما تجاوزت طبيعتي التي تميل إلى الحرية والفوضى، لقد انعكس ذلك الانضباط الداخلي على كل مفردات حياتي وبمختلف تفاصيلها، واستمر معي في مسيرتي العلمية والعملية والاجتماعية حتى مرحلة متأخرة، لا أخفي جدلاً أن ذلك ساعدني كثيراً في تحقيق كثيراً من أهدافي وطموحاتي، لكنه في نفس الوقت سرق مني أشياء كثيرة، ما كنت لأفرط فيها لو عادت بي تلك الأيام.
كم أنا نادم على تلك «اللحظات المفقودة» من رحلة العمر التي مرت، أجدني مجبراً على الاعتذار لنفسي عن كل لحظة فقدتها دون أن أشعر بها، أو أن أعيرها اهتماماً يليق بما هي عليه من جمال لا يعوّض، كنت أشبه بمن يعيش داخل كوخ خشبي على جال النهر الذي لم تجر مياهه قط، مضى كل ذلك الوقت وهو يحاول العبور إلى ضفة لا وجود لها، كان بداخله حكايات مؤجلة، قتلها الصمت، وأجهز عليها طول الانتظار، ما كان يجب أن تتوارى أبداً داخل ذلك الكوخ.
لكل ماضٍ في طريقه، حاملاً معه آمال وطموحات، لا تؤجل «دقيقة حياة» واحدة، مهما كلفك الأمر، عشها بكل تفاصيلها، فلا يوجد أثمن من «لحظة ذات» تتلذّذ بها، تذكر دائماً أن ما يمضي لا يعود، إياك أن تتخندق في كنف الشخصية الجادة، وأن تتعامل مع الأوقات الجميلة على محمل ثانوي، أو تسيطر عليك قيود الوهم وتفضي بك إلى تغليب الغد على اليوم، استمتع بكل ما يحيط بك، لا شيء يبقى كما هو، حتى الأشجار التي تستظل بها سترتفع عنك، وسيغادرك ظلها، هي دعوة للحياة لا أكثر.
بعد أن تجاوزت منتصف الرحلة، كثيرة هي الأحلام التي قرّرت التنازل عنها، لم يعد هناك متسع من الوقت لتحقيقها، ما عدت أتحمّل «الخيارات الفائضة»، أحاول اللحاق بما تبقى من فرص لم تنته، لقد كادت أن تتيه بي الخطى في محطة قطار الحياة، لم أعد أدري هل ما أحمله في يدي تذكرة للوصول أم للمغادرة، ما أنا متأكد منه فعلاً أنني قرّرت أن أواصل إلى حيث يأخذني الأمل، سوف أستعيدني كما كنت يافعاً، تسكنني الحياة. ثمة حكايات بداخلي لم تروا بعد.