د.عبدالله بن موسى الطاير
ثورة أو انتفاضة تلك التي حاقت بالجزائر والسودان؟ هما في مطالبهما ثورتان، وفي أدواتهما انتفاضتان. بخلاف الربيع العربي؛ لم يخطط لهما من الخارج، ولم يكن للإسلامويين دور فيهما إلا بقدر مشاركة المواطن العادي، وبخاصة من فئة الشباب المتحمس. أسباب موضوعية، ودواع منطقية أدت بالناس للخروج إلى الشوارع. إذا تحدث الجمهور بصوته المسموع المتمثّل في التجمهر والاعتصامات ألفيت كل وسيلة لقمعه لا تنفع.
الجزائريون شعروا بالإهانة أن يعاد ترشيح رئيس مريض غير قادر على الحكم، اعتبروه استخفافاً ببلدهم، والتفافاً من بعض المستفيدين من وجود ذلك الرئيس الذي ضمد جراح الجزائر لفترة امتدت عشرين عاماً، وخرج بها من عنق الزجاجة الذي أعقب فترة التسعينيات الدامية. يقدرونه ويحترمونه، وكان يمكن أن يكون ما بقي له من حياة أباً روحياً للجزائريين، ولكن الترشح لعهدة خامسة أفسد عليه الأربع السابقة.
السودانيون انتفضوا على 30 عاماً من التجارب المرة تحت حكم البشير، كانوا يأملون في مطلع كل عام أن يكون أفضل فينقلبون بنهايته محبطين، فالأمور تزداد سوءاً عاماً بعد آخر. عندما انتفض الشعب السوداني في 19 ديسمبر 2018م توقعنا أن ذلك إنذار للنظام، وأن لدى الرئيس ما يقوله لتغيير الحال، وامتدحت في هذه الزاوية بعض التحركات على مستوى القيادة السودانية في داخل السودان وخارجه، ولكنني قلت إن إدارة الأزمة تتطلب قرارات جريئة، ولو تم اتخاذها في حينه لسلم رأس النظام، ولكن استمرت الاحتجاجات وتصاعدت المطالب حتى أصبح هدفها اقتلاع النظام. وقد حدث ذلك فعلاً. النهايات التي تنادي بالاجتثاث هي نهايات ثورية محفوفة بالمخاطر على اللحمة الوطنية وسلامة الدولة واستقراها ووحدة أراضيها.
الشعوب العربية تصبر وتتحمّل، وبصبرها تتراكم المطالب المؤجلة، ويتعاظم الخلل، وتتسع الفجوة بين الأنظمة الحاكمة وبقية المواطنين، وبخاصة إذا أصبح الحاكم لا يرى إلا بعيون النخب المحيطة به. قوة التحمّل التي تضبط سلوك الشارع العربي عقوداً من الزمن تتحول إلى سيل هادر يجتاح كل ما يقف في طريقه متخطياً تحصينات ضبط النفس، والأمن والاستقرار، ووحدة الصف والتراب التي أعاقت سبيله سنوات طويلة.
إذا اندفع الجمهور إلى الشارع تفسد أسلحة القمع، وتنحسر شجاعة الشجعان، فخروج الملايين يعطِّل أي قوة أمنية عاقلة، وإذا كانت مأزومة نزقة فإنها سوف تقتل العشرات والمئات وربما عشرات الآلاف ولكنها في نهاية المطاف لا تستطيع قتل الشعب كله. وبذلك تكشف الانتفاضات العربية أن الأنظمة التي تعتمد على القبضة الأمنية تنفق مليارات من الدولارات لحماية النظام الحاكم من التمرّد الداخلي، وذلك مفيد قبل نزول الناس للشوارع، أما بعد نزولها فتضحي تلك الثروات المهدرة هباءً منثوراً. أما الجيوش فنوعان، الأول؛ عقيدته العسكرية قائمة على حماية النظام، وهذا يسقط بسقوط رأسه ويتشرذّم ويتحوّل إلى مليشيات تبحث عن قائد تحارب لحمايته. الثاني؛ جيش محترف يقف عندما تدلهم الخطوب إلى جانب الشعب، فيحمي الوحدة الوطنية ويشكل جسراً مناسباً للتغيير تحت ضمانته. بدلاً من الشرعية القائمة على الخوف والقمع، ليت العرب يفكرون في شرعيات تقوم على التنمية. ومضاعفة الإنفاق على التنمية الشاملة. وفي الجمهوريات التي تنص دساتيرها على الانتخابات جرّبوا أن تتركوا السلطة والناس عنكم راضون، لتبقوا في مجتمعاتكم معزّزين مكرّمين، ويكون المساس بكم بمثابة التعدي على سيادة دولكم. على الرئيس المنتخب أن يفكر فيما إذا كان يريد نهاية كريمة أو نهاية مأساوية، هو في نهاية المطاف سيرحل إما بالموت أو الانقلاب أو الثورة، وهي جميعاً نهايات مأساوية، فلماذا لا يختار لنفسه نهاية كريمة؟ رئيس واحد في ذاكرتي ومن السودان، إنه المشير سوار الذهب الذي تنحى بعد عام من رئاسته وبقي محل احترام السودانيين والعالم، هل سيجرّب الرؤساء المنتخبون في عالمنا العربي النهايات السعيدة للسلطة؟ إذا آثرتم الحكم مدى الحياة، فعليكم أن تستفوا شعوبكم في تحويلها إلى ملكيات كما هو الحال في المملكة والخليج والأردن والمغرب، ويقيني أن الأنظمة الملكية هي أفضل ما حكم به العرب.