حمّاد السالمي
* مع أن أهل اللغة؛ لم يتجاوزوا حد وصفهم (اللقافة) بغير (الحذق والمهارة)؛ وأن اللّقْف: هو تناول الشيء يُرمى به إليه؛ وأنه سرعة الأخذ لما يرمى إليك باليد أو اللسان؛ إلا أن المفهوم الشعبي يصر -ومعه كل الحق- على تأثيم مفردة (لقافة)، وربطها بـ (التطفل، والفضول، والتدخل، وحب الاستطلاع)، ومن أجل ذلك؛ سرى فينا مرض اسمه (لقافة)، وصار منا مرضى يقال لهم: (ملاقيف). وقانا الله وإياكم شر (اللقافة واللقيف). فمن نكد الدنيا على المرء؛ أن يُبتلى بقريب أو صديق أو معرفة؛ أو حتى عابر سبيل، يتعدى على خصوصياته، وينبش في أدق تفاصيل حياته. يسأله عن عمره ما بلغ منه..؟ وعن رزقه ما نال منه..؟ وعن أهله وعشيرته..؟ كم مرتبه الشهري..؟ وكم عدد أولاده..؟ وما حال سكنه وركوبته..؟ وكم يملك من المال والعقار..؟!
* والله إن هذا حال كثير من الناس مع حشود الفضوليين والمتطفلين والحشريين والملقفين. فمن ابتكارات المجتمع العجيبة؛ أنه رقّى الفضولي، واصطلح على تسميته ملقوف..! واللقافة أعلى درجات الفضول، كما أن الحشرية أعلى مراتب اللقافة. وهذا وصف يعكس تأذي الناس من سلوك الفضوليين وهمجيتهم، فهم الذين يتدخلون فيما لا يعنيهم، ويحشرون أنفسهم فيما لا يخصهم، وقديمًا كشف شاعر عربي نبيه؛ عن مرض اللقافة، وأنه لا برء منه. قال:
أبت اللقافة أن تفارق أهلها
وأبى اللقيف أن يكون حكيما
* اشتكى لي صديق من معاناته مع اللقافة والملقفين، ومن حالته مع (مريض لقفي) في ثوب صديق قال: أعاني بشكل يومي، في مكتبي، وفي منزلي، وفي الطريق العام، وفي الهاتف. أتميز غيضًا من شخص صديق يتحفني بزيارات شبه يومية في مكتبي، لكنه ما أن يجلس ويشرب الشاي ويقرأ كل الصحف، حتى ينهض من مقعده، ويأتي واقفًا إلى جانبي، فيقلب في أوراقي فوق المكتب، ويقرأ مكاتباتي وما يقع عليه نظره فوق مكتبي، دون خجل أو حياء..!
* لا تظنوا بأن ضرر وأذى المتطفلين والفضوليين يتوقف عند مستويات شخصية. انظروا ماذا يجري لكم وأنتم في طريق عام. إذا اشتجر شخصان، أو وقع تصادم بين سيارتين، حتى لو في الجهة الأخرى من الطريق. يعمد بعض الناس فيوقف سياراته في الطريق العام لكي يستطلع ويتفحص ما جرى ويجري، ويترجل من بالسيارات أحيانًا ليتكأكؤا على مكان الحادث، مبطّئين السير، ومعطلين الحركة، ومتجاوزين على حقوق الغير، بل ويزيدون الأمر سوءًا؛ حين يستلون هواتفهم النقالة، فيصورون ويرصدون ما يشاهدون، دون مراعاة لخصوصية الآخرين، كاشفين بذلك عورات، ومزورين حالات، ومضللين لواقع، ومتسببين في الأذى للمجتمع والدولة والأمن الذي يظلهم بظله.
* المتطفل والملقوف؛ يمارس سلوكيات خاطئة، لأنه يتعدى على خصوصيات وحريات الغير، ويدخل في النوايا، ويتدخل فيما لا يعنيه، وكثير منهم لا يخجل من أن يقدم لك فتاوى دينية، ورؤى مصيرية، ويعرض عليك نصائح طبية، لك ولأسرتك ولمن تحب إن أحببت..! كم عدد الرسائل والمنشورات التي تتلقاها يوميًا على جوالك وهي تقول لك: كل ولا تأكل. قل ولا تقل. متى تنام ومتى تصحو. كيف تمرض وكيف تعالج نفسك، ماذا تلبس، وما الذي لا تلبس.. إلى آخر قائمة الأوامر والنواهي والتوجيهات التي يتطوع بها الملاقيف، ليقلبوا مزاجك، ويؤثروا في حياتك، ويضغطوا على تفكيرك.
* في تاريخنا العربي القديم؛ نماذج من هؤلاء الفضوليين الملاقيف، مثل أشعب وجحا على سبيل المثال، مع أنهما كانا على لطف وأدب ساخر مقبول، إلا أن ملاقيف زماننا؛ يدَّعون المعرفة في كل شيء، ويجادلون بصلافة، ويزاحمون الجادين العارفين، وما أكثرهم. تمتليء بهم منصات أدبية وثقافية، ويتسللون إليك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتفاجأ بهم في الشارع والحي والمسجد ومقر العمل.
* كثير من هؤلاء المنغّصين؛ يحفظ آيات كريمة، وأحاديث شريفة، وأشعارًا وأقوالاً وأمثالاً في شتى ميادين الحكمة، مما يدل ويحض على حسن الخلق وآداب التعامل مع الغير، لكنه يتغافل عن حديث شريف للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من حسن إسلام المرء؛ تركه ما لا يعنيه).
* لا قوة تستطيع مواجهة هذا الحشد المنكّد المنغّص علينا في حياتنا؛ إلا الحشد نفسه؛ هذا إذا نجحنا في التوعية بمضار سلوكهم، وكانوا هم في دائرة الضوء الإعلامي الموجه والمربي، وأن ندعو أصحاب العقول منهم في كل وقت، إلى ترك الفضول والتطفل، وتجنب الحشرية والتلقف.
* يا أصحاب العقول، قولوا لمن له عقل من هؤلاء: دع ما لا يعنيك إلى ما يعنيك، وأهتم بنفسك، فليس كل ما يقال صحيحًا، وليس كل ما يُسمع يقال، وليس كل ما يقال يُسمع، فالمتكلف لما لا يعنيه؛ متعرض لما يكره، وخير لك؛ ألا تدخل بين العصا ولحائها. إن من اشتغل بالفضول؛ ليس من أهل العقول، وقد حرم الورع. وصدق الشاعر الذي قال:
أقول في الأمر يعنيني الجوابُ به
وأكثر الصمتَ فيما ليس يُعنيني