د.سالم الكتبي
من يريد أن يفهم رؤية إيران للعراق، عليه الاسترشاد بمواقف وتصريحات قادة نظام الملالي في مناسبات مختلفة، وأحدثها تلك التي وردت على لسان المرشد الأعلى علي خامنئي خلال لقائه رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، الذي زار إيران مؤخراً، حيث طالب خامنئي الجانب العراقي بضمان خروج القوات الأمريكية من العراق في أقرب وقت ممكن!.. وأضاف خامنئي في تصريحات رسمية منشورة: «الحكومة والبرلمان العراقي وجموع السياسيّين الحاليّين في هذا البلد، غير مرغوب بهم من قبل الأمريكيين، ولذلك فإنّهم يخطّطون لإزاحتهم من المشهد السياسي العراقي».
هناك براهين وأدلة عديدة على التدخل الإيراني في الشأن الداخلي العراقي، ولكن هذا المثال تحديداً ينطوي على دلالات لافتة، فخامنئي الذي زج بميلشياته في العراق منذ سنوات طويلة مضت، لا يجد حرجاً في مطالبة الجار العراقي بإخراج القوات الأمريكية من بلاده ولكنه لا يجد في المقابل غضاضة في بقاء ميلشيات الحرس الثوري الإيرانية في العراق وسوريا.
تصريحات خامنئي تعيد إلى الذاكرة ما قاله عام 2016 وزير الخارجية العراقي السابق إبراهيم الجعفري، حين أعلن أن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني يعمل في العراق بشكل رسمي بوظيفة مستشار عسكري للحكومة العراقية، وكان واضحاً وقتذاك أن الحكومة العراقية السابقة لا تستطيع إبعاد الجنرال سليماني ولا نفي وجوده في ظل حرصه على التباهي إعلامياً بجولاته الميدانية، فوجدت في إسناد وظيفة مستشار عسكري لقائد إيراني مخرجاً مناسباً من هذه الورطة.
الملالي يعتقدون أن وجودهم في العراق أمر طبيعي وينظرون إلى هذا البلد العربي العريق بشكل مختلف للواقع الذي يحكم العلاقات الدولية ومعايير السيادة الوطنية للدول، وقد سبق لعلي أكبر ولايتي أحد مستشاري خامنئي أن قال منذ سنوات إن «أيّ قوة عراقية» لن تستطيع إزاحة رئيس ولا رئيس الوزراء (آنذاك) من مناصبهم.
الفكر الإيراني تجاه العراق يظهر أيضاً في قول خامنئي خلال اللقاء ذاته أن «هدف أمريكا في العراق يتخطّى مجرّد التواجد العسكري.. هم يسعون لتواجد ومصالح بعيدة الأمد، وتأسيس حكومة شبيهة بالحكومات العسكرية التي كانت موجودة في الفترة الأولى لاحتلال العراق»، بل وينصح رئيس الوزراء العراق باتخاذ خطوة تدفع الأمريكيين لسحب قواتهم من العراق في أسرع وقت ممكن، «لأنهم أينما مكثوا عسكرياً لفترة طويلة في بلد ما، كانت عملية إخراجهم محفوفة بالمصاعب».. وحتى لا اتهم بالتحيز السياسي، فإنني لست مؤيداً لاستمرار وجود القوات الأمريكية في العراق، بل أقول: إن المسألة التي تحدث عنها خامنئي بأن بقاء أيّ قوات أجنبية لفترة طويلة في أيّ بلد يجعل إخراجها صعباً، واقعية تماماً، ولكنها لا تنطبق على القوات الأمريكية فقط، بل تنطبق أيضاً على الوجود العسكري الإيراني في العراق وكذلك سوريا! أم أن الميلشيات الإيرانية ليست قوات أجنبية وصارت من «أهل الدار»؟! وعلينا أن نتذكر أن نظام الملالي قد قدم كل الدعم للجانب الأمريكي في العراق حين كان الأمر يتعلق بإزاحة نظام صدام حسين، ثم بّدل أجندته بعد تغير الأهداف، ما يعني أن الأمر بالنسبة له لا يتعلق بسيادة دولة جارة، بل بمصالحه وأهدافه الإستراتيجية، لذا نلحظ أنه لم يعترض على فكرة الوجود العسكري الأمريكي بل يرفض الاستمرار والبقاء لفترات طويلة، وليس أيضاً من باب الحرص على سيادة العراق، ولكن خشية استخدام الأراضي العراقية منطلقاً لتوجيه ضربات عسكرية ضد النظام الإيراني!.
لم يكن من اللائق بداهة أن يشير رئيس الوزراء العراقي إلى مثل هذه المقارنات خلال لقاء خامنئي، ولكن من الغريب أن يذهب المرشد الإيراني إلى حد هذا من التغابي والتعامي السياسي المتعمد عن رؤية الوقائع الثابتة في مناقشة الشأن العراقي.
العراق يسعى جاهداً إلى التعافي سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ويحاول فتح صفحة جديدة في علاقاته مع محيطه الإقليمي من خلال تبني سياسات محايدة قائمة على المصالح المشتركة وتغليب لغة التعاون مع الجميع لضمان أمن واستقرار العراق، ولكن الملالي يحرصون على إبقاء العراق في دائرة محددة رسموها بأنفسهم، وهذا أمر يخالف منطق الأمور وواقع العراق وتاريخه العريق، وكل ما يتمتع به من موارد هائلة على الصعيدين المادي والبشري.
ولاشك أن إحدى إشكاليات نظام الملالي الإيراني هو أن قادته يمتلكون فكراً متحجراً غير قادر على استيعاب متغيرات البيئة السياسية من حولهم، فلا يرون سوى ما يتصورونه حقائق ومعطيات إستراتيجية ثابتة، وهذه إحدى المعضلات التي ستواجه أيّ قيادة سياسية عراقية في التعاطي مع فكر الملالي، ولكن ما يقوم به رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي يعكس تفكيراً عراقياً يهدف إلى بناء عراق جديد يمتلك الفرصة لإعادة البناء والإعمار والاستفادة من كل الفرص المتاحة له جيوإستراتيجياً، فضلاً عن استعادة التواصل الطبيعي مع حواضنه ومحطيه الإقليمي العربي الطبيعي.
ورغم كل ما يثيره البعض إعلامياً بشأن وجود تنافس عربي - إيراني على أرض العراق، فإن هذا البلد العريق أكبر وأهم من أن يتحول إلى ساحة لصراع بين متنافسين، فالعراق قادر على توجيه بوصلته بالشكل الذي يتماشى مع تاريخه ومصالح شعبه ومنطق الأمور التي تنأى به أن يكون ممراً لنظام يريد الهيمنة على مقدرات الشعوب العربية ومكتسباتها.