د. حمزة السالم
نابليون أمريكا هو الرئيس السابع للولايات المتحدة الأمريكية، نعته الهنود الحمر بالشيطان، ونعته جنده بشجرة اللوز العجوز - كناية عن القوة والتحمّل- ووصفه قومه بالعنصرية؛ فهو نصير الرجل الأبيض الكادح، وذمه أعضاء في الكونجرس فشبهوه بنابليون. وقد أجمعت أمريكا يوماً ما على أنه البطل العظيم، وأكرمه قومه بعد موته فجعلوا صورته على الدولار فئة العشرين، والتي أصبحت اليوم أكثر فئة متداولة في أمريكا، -وهذا من حظه القوي الذي لازمه حياته كلها، فقد حارب العملة الورقية قدر جهده عندما كان رئيساً لأمريكا.
هو أندرو جاكسون، اليتيم، الفقير، المشاكس، السكير، الفتوة، البلطجي، المبارز، المقاتل، القاتل، ناقض العهود، الرئيس الجاهل، الفاسق المتزوج من متزوجة، ومع ذلك أحبه قومه من البيض حباً عظيماً.
هو مؤسس الحزب الديمقراطي، ورسموه كحمار، فاستغل صفة الحمار في الصبر والجلد وخدمة الناس، فنسبه لحزبه، فصار شعار الحزب لليوم.
في صباه، جلده البريطانيون وسجنوه، وضربوا وجهه بالسيف لرفضه مسح جزمة ضابط بريطاني، وقتلوا إخوته وأماتوا أمه. استثمر جاكسون حقده على البريطانيين وكرهه للبريطانيين بداية في انخراطه كصبي مراسل في حرب التحرير، ثم خدمه حقده العميق القديم على البريطانيين فيما بعد.
عُيِّن قائداً لميلشيا الولايات الجنوبية من أجل منع الهنود الحمر من نهب وتخريب المزارع ومن قتل المزارعين وعوائلهم. فغلبه طبعه في عدم الاكتراث بالأوامر، فلم يقف عند منع الهنود الحمر من قبيلة الكريك، بل تعاهد مع قبيلة الشروكي من الهنود الحمر، فباغت الكريك فأبادهم جميعاً، فظهرت وحشية جاكسون.
ومن ثم عاد جاكسون - بعد أن أصبح في البيت الأبيض- فغدر بحلفائه الشروكي وبأصدقائه من غير الشروكي من الهنود، فأمر ونفذ فيهم أكبر عملية تهجير للهنود الحمر من الذين كانوا مسالمين ومنصهرين في المجتمع الأمريكي، فساقهم في درب الدموع، الذي أهلك نصفهم، نحو ثمانية آلاف من الأطفال والنساء والشيوخ. وثم وزع أرض الهنود سحب الراضي من قبيلة الهنود على المهاجرين البيض القادمين من أمريكا، ليملكها الرجل الأبيض بينما الرجل الأسود هو من يشقى في استصلاحها وزراعتها، فقد كان جاكسون من مناصري الرق، ويملك أكثر من مائة عبد. ولم يكترث جاكسون بحلفائه القدامى الذي حاربوا معه ضد أبناء عمومتهم وضد البريطانيين والإسبان، ولم يذكر شيئاً من عهوده لهم، فتركهم في حسرتهم يتجرّعون ذل التشرّد الذي أمر به لهم، فذاقوا شتى أنواع الألم والمهانة.
وقبل ذلك، حقق جاكسون - وهو في مقتبل رجولته- نصراً عظيماً ضد البريطانيين في حرب 1812. فبينما كانت واشنطن تحترق، جمع جاكسون ما استطاع من المليشيا ومن الهنود والعبيد فجعل منهم جيشاً، فواجه الهجوم الرئيسي للبريطانيين ضد أمريكا، في نيو أورلينز. فحطم - بجيش هزيل- الأسطورة البريطانية، التي رمت نيو أورلينز بالنخبة المدربة من جيشها والمتمرّسة في خوض أشد المعارك ضد نابليون فرنسا. فأنهى المعركة في سويعات قليلة، بخسارة رجل واحد من رجاله، مقابل مائة بريطاني، وألجأ الأساطيل البريطانية للانسحاب بعيداً في عمق المحيط، فلقبوه بجورج واشنطن الثاني.
وبعد تحقيقه لذلك النصر العظيم، كُلّف جاكسون بمهمة الدفاع عن الجبهة الأمريكية الإسبانية، المتمركزة في فلوريدا. وكعادة جاكسون، في عدم الانضباط، فرمى بأوامر واشنطن وراء ظهره، وهاجم فلوريدا واحتلها وطرد الإسبان منها، ثم ضمها للولايات الأمريكية، دون أذن واشنطن أو علمها بذلك. وكعادته، ضرب جاكسون بأعراف الحرب وقواعدها عرض الحائط، فقتل جاكسون بريطانيين كانوا يدربون الهنود الحمر على القتال في فلوريدا، فثار عليه الكونجرس ونعته البعض بنابليون أمريكا، ذماً له لا مدحا.
وخدمه حظه مرة أخرى في نهايات حياته، فتغيّر نظام الانتخابات الأمريكية على ترشحه - فأصبح كل فرد ينتخب الرئيس مباشرة، دون ممثلي الولاية-، فانتخبته الغالبية الكادحة البيضاء لكرسي الرئاسة الأمريكية فكان أول رجل من عامة الناس يصل لذاك المنصب. كما أنه لليوم هو الوحيد الذي تُنسب له حقبة زمنية في التاريخ الأمريكي، الحقبة الديمقراطية، فسُميت بالحقبة الجاكسونية.
وقد كانت سنوات حكمه الثمانية، مليئة بالتناقضات، ولا يتسع المقال لها هنا. وأشمل وصف لها، أنها سنوات نصرة الرجل الأبيض الكادح، باستعباد الأعراق الأخرى جميعاً. وهي سنوات تستحق مقالات قادمة، ذلك بما أن الرئيس اليوم، رولاند ترامب، قد علّق صورة جاكسون في مكتبه في البيت الأبيض وشبه نفسه به.
وعموماً فالسياسة الأمريكية كلها، سهل التنبؤ بها إذا ما درس المتنبئ تاريخهم وفهمه فهماً عميقاً في إطار تصوراتهم.