د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
**حدث في مجلس الوزير ابن العميد - كما روى ابنُ خَلّكان في وفيات الأعيان وسواه في سواه - أنْ تناولَ أحدُهم «الجاحظ 159-255هـ» بما ظنَّه حطًا من قدره فلم يردّ عليه الوزير، وسأله «أبو القاسم السيرافي» عن سبب صمته غير المعتاد فبرّر ذلك بأنه لم يجد أبلغ في الرد عليه من تركه على جهله، ولو تحاور معه لأتاح له فرصة مراجعة كتب الجاحظ فصار إنسانًا؛ إذ «كتبُ الجاحظ تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا..»، وإذا كان أبو الفضل ابنُ العميد هو الجاحظَ الثاني كما يلقب، وهو الذي قال فيه المتنبي:
من مبلغُ الأعراب أني بعدها
شاهدتُ «رسطاليس» و»الإسكندرا»..
فإن جملته: «العقل قبل الأدب» صُكّت من ذهب؛ حيث ينطلق التفكيرُ في أمدائه غيرَ عابئٍ بالأجوبة بل بالأسئلة، وبالنواتج وقت الوصول لا بخطوات الحَبو وتفاصيل الحُلم.
** العقلُ يُخضع المعلومةَ للبحث قبل البث، وجليسُ ابن العميد -الذي لم يرد اسمُه ولا وسمُه- لم يُمتّع بأناةٍ تحميه من التسرع، ولاختلاف الزمن فقد رُويت الحكايةُ بصفتها نادرةً لا تتكرر كثيرًا في مجالس الفكر، واستعادتُها هنا للمقارنة بين زمنهم وزمنٍ نعيشه، وأيسرُ ما فيه انفلاتُ الألسنة وتشفي الأقنعة وتناقل السلبيِّ وتجاهل الإيجابيّ.
** غادر - ويغادر- المشهدَ كُثرٌ ممن توهموا وصايتهم ولم تكن أبويتُهم سوى بريقٍ خطف أبصارًا وأعشى بصائر ثم صار سرابًا فيبابًا استحقوا به التجاهل زمن حضورهم، والجهلَ بعد اختفائهم، وليس أسوأَ للحراكِ التنموي من مجاميع القاعدين الذين يصفون ويُصنفون تحت راياتِ الوطنية والفضيلة والثقافة والوعي، وهي رايات حقٍ تحتها محقٌ وغيرُ محق لتعلوَ -في النهاية- بساعدِ مقلٍ فوق مكثر، وصامتٍ فوق ثرثار، ومنصفٍ فوق منتصف.
** من يعي ذاته يفتش عن متوارٍ لا منتشر، ويُؤنسه ساكنٌ في الهوامش الرحبة لا متصدرٌ على المتون المقيدة، والفارق بينهما هو العقل لا العلم ولا الشهرة ولا الكرسيّ ولا العزف على مقطّعات الاستعداء والاستعلاء والتجديف والتزييف، والاستفهام المهم هنا: أين الكتب وأين الجاحظ وأين مجلس ابن العميد؟
** لدينا مثلُها وأمثالهم لكن معظمهم يضِنّون برقيِّهم عن ساحات الهرج والمرج؛ فهل يدرك الجيل الطُّلعة -وهم المعنيون بهذا المقال- أيّ مسار التزموه حين اختطَّ بعضُهم نهج التبعية؟ وهل ثمَّ أسوأُ من سمة «التابع والمتابع» الذي عمَّ الوسائط الرقمية فأركس المشهد في إسقاطات الشيخ والمريد، وقد يتجاوزه إلى سقوط السادة والعبيد.
** في زمن سبق آذى العقلَ إعلامُ الإثارة التقليدي، وفي زمن تالٍ أشجاه الشغبُ الرقمي، وكانت قيمةُ أولئك وأولاء مقيسةً بعناوين موضوعاتهم في مساحات التداول، والمؤدى ضجيجٌ يختارُ العقولَ القابلةَ للتصديق والجوارح المهيأة للتصفيق، وحين ينفضُّ سامرُ الحفلة الصاخبة يجد المصدق والمصفق «قبضَ ريح».
** العقلُ يرقي ويرتقي.