د. خيرية السقاف
بدأ يوم أمس «مؤتمر الاستعراب الآسيوي» في الرياض، وهو أول مؤتمر في موضوعه على مستوى الدول العربية ودول شرق آسيا، يستضيف عدداً من المعنيين بدراسة اللغة العربية، وتدريسها، والترجمة إليها، ومعرفة خصائصها وعلومها، ونقل التراث الآسيوي إليها، والترجمة من، وإلى العربية في دول شرق آسيا، هذا المؤتمر الضخم بموضوعه، بالجهود التي بذلت له، بالموضوعات التي يطرحها بين الأيدي، بالحضور المميز للصين، وكوريا، وتركمانستان، والأوزبك، والهند، وباكستان، وكازاخستان، وماليزيا، وروسيا، والهند وغيرها، بعلومهم، وتجاربهم، وخبراتهم في تعلّم العربية، والكتابة بها، والترجمة إليها، والتفقه في علومها، والتجريب في تدريسها، وفنون خطِّها، والتحدث بلسانها، في هذا التجمع المنتقى الضخم عمل كبير في المجال المعرفي، والثقافي، والبحثي، والتاريخي، وهو إحدى ثمرات «مركز البحوث والتواصل المعرفي» الذي يديره عالم قدير، ورجل بحث من الطراز الأول، وشخصية علمية لها تاريخها الأكاديمي، والبحثي، والتأسيسي، في مجالات الفكر، والمعرفة، والتصنيف، والتوثيق، والتأليف، هو الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد، ومعه من النشطاء باحثون جادون، وملهَمون، ولم يكن لي التحدث عن أهمية المؤتمر دون هذا المرور على ذكر رجال يقومون بكل عزم ليوطدوا، وينفذوا أهم ما جاء في رؤية 2030 لتأكيد التعارف، وبسط سبل التواصل، والاتصال، والمعرفة، ودعم الشراكة بين المملكة العربية السعودية، والعالم الآسيوي باتجاهاته، ودوله العديدة الشاسعة، التي تتلاقى معنا في الدين، والتي تتقاطع معنا في التطلعات المستقبلية، والاستشرافية النوعية، وفي الشراكات الإنسانية المختلفة، وهذا تنفيذ سعى لتمكين الروابط العلمية، والفكرية، والمعرفية، والتواصلية مع دول شرق آسيا ذات العراقة، وتلاقي المصالح وكثير من المرتكزات..
الشاهد في المؤتمر أنه يهدف إلى كل ذلك منبثقاً من الخطوط العريضة «للرؤية»، وانطلاقاً من مرتكزات الشراكة الإنسانية، والمعرفية، والعلمية، والاقتصادية، والدينية، وحضارة الإنسان، واستشرافاته المختلفة، يتجلَّى كل هذا في موضوعات أوراق عمل المؤتمر، حيث يشارك في تقديمها، والحوار في تفاصيل بحثها، ونتائجها على منصات لقاءات المؤتمر في ست عشرة جلسة حوارية، بحثية، متقدّمة في موضوعاتها، بكرٌ في تجربتها أكثر من مئة عالم، فيهم الأكاديمي/ة الذين أتوا من ثماني عشرة دولة شرق آسيوية، وآسيا الوسطى للرياض عاصمة الرؤية، ليلتقوا حول محاور سبعة لأكثر من مئة ونيف ورقة عمل، تتعلّق بتجاربهم في تعلّم اللغة العربية، والتكلّم بها، والترجمة إليها، والترجمة منها، ودراستها، وتدريسها، وفي ذلك ما يؤسس للتواصل الثقاقي في نقل الخبرات، ويعزِّز التبادل الفكري، ويحقق تذويب التحديات، ويقضي على العزلة، ويلغي التباعد بين شعوب هذه النخبة من العلماء، والمفكرين، والباحثين المستعربين الآسيويين، وشعوب الدول العربية، كما يوطد بينها قيم التعاون، والتبادل المعرفي، والشراكات المستقبلية، ويعرِّف بجهود تلك الدول في مشاريع ترجمتها لذخائر الأدب العربي، وتراثه، ويقرّبها من حديث منجزاته المختلفة، كلك يتضمن المؤتمر تلك الجهود التي بذلها المستعربون في نقل قواميس اللغة العربية إلى لغاتهم، ويكشف عن عنايتهم بفنون وجمال العربية، وعن جهودهم في كل ذلك في جامعاتهم، ومراكز بحوثهم، ومناهج تعليمهم، وتجاربهم الفردية أيضاً..
وقد شهدت شخصياً تجربة «كوريا الجنوبية» في جامعتها العريقة» هانكوك»، و»الجمعية الكورية العربية» بوزارة الخارجية الكورية التي أسست بهدف الشراكة الشاملة بين العرب وكوريا في مناحي الآداب والعلوم ونحوها حين تمت استضافتي في مؤتمرها الأدبي الأول 2008، حينها لم أجد اللغة الكورية عائقاً وأنا أقدم ورقتي البحثية بالعربية، وهم يفهمون عربيتي دون تعثر، اطلعت على برامجهم لتعليم العربية، وتدريسها، والترجمة عنها، وإليها، وكيف هي اللغة الثانية بعد الكورية في خيارات طلابهم في مدارس التعليم العام، إذ لا يقتصر ذلك الخيار على الجامعة التي ضمن أقسامها قسم خاص للعربية وعلومها، وآدابها، إنهم أيضاً يحبون العربية فيطلقون على أنفسهم أسماءً عربية يتنادون بها جوار أسمائهم.
وبيننا الآن تجاربهم المكينة، وسعيهم الحثيث للاستعراب، وإن «مؤتمر الاستعراب الآسيوي» عمل كبير وفخم، ورائد، يكشف كل ذلك، ويقرِّبه منا، حين يكسر حواجز المعرفة المجهولة بين الآسيويين والعرب، كما يمكِّن جهود المستعربين من جسور التواصل، والمعرفة تلك التي تلتقي لدينا مع تطلعات رؤية المملكة، وطموحات التوسع في علاقات بلادنا مع دول آسيا المختلفة.
إن هذا المؤتمر محور دائرة مشعة بأهدافه، ينطلق على منصاته حوار حضارة دول المستعربين الحاضرين فيه، والممثلين لدولهم لتمتد أواصره، وتعلو مصابيحها من هنا، من الرياض، على بساط «مركز البحوث والتواصل المعرفي»..
كما أن هذا المؤتمر من المشروعات المنفذة على أرض الواقع، ولا يليق بقلم يدرك أهمية أهدافه، ونتائجه أن يغفل الكتابة عنه، لوجه الحقيقة، وأمانة الطرح، والتجرّد للاستحقاق وحده لا غير..