د. خيرية السقاف
للذاكرة ذاتية مدهشة..
تعجب منها في هدوئها تنساب رويداً رويداً بك على سطوح الذي عبر..
في صخبها تخلط لك مزيج الذي تراكم..
عند استدعائها في وقدة الموقف قد تجيبك، وقد تخاتلك، وقد تخذلك متى شاءت فعلت ما تريد بك، لكنها لا تتخلص مما فيها أبداً، تلك هي..
وحين ترغب أنت في الانعتاق من إرثها، وتميل إلى النأي عن كمينها..
تطفر عنوة أمامك، لتدلق لك ما كنت قد رغبت في نسيانه..
وأنت قد ترغب في التحلّل من قليلك، أو ربما كثيرك، أو قد يكون عابرك فتمكر بها، تحاول أن تتجاهلها، وإن راوغت بصورة، أو داهمتك بصوت..
وأنت تتمادى تهيل عليها رتلاً من جديدك لتملأ به أركانها، ظناً منك بأنها لن تعود للمكر بك وإنك وحدك من يمكر بها، لكنك حين تلوذ بالإضافات لزواياها، أنت لا تعلم سعتها، ولا تصل لنهاياتها، ولا تدرك أبعادها، وإن نظَّر لك الباحثون في شأنها، أو عبث بظنك عنها نفسيٌ يدَّعي معرفتها، بأنها نسَّية، تتفلَّت، دفَّانة تقفز..
لكن علم الإنسان ذلك عنها فيك، هو أدنى مما تعلمه أنت عنها!..
إنك حين تزحم هذه الذاكرة بجديدك، وإن كان موقف عمل، أو مضمون كتاب، أو قصيدة ملهمة، أو طيفاً باذخ النبل، أو مشروع تأمل، أو سياحة في مساحات، فإنك لا تمكر بها لتنسيك فهي أقوى منك، عجيبة فيك تحفظ لك ما تباغتك ببقائه فيها لك..
حتى إن تشغلها بأماكن مستجدة، أو بطيوف أفكار مستبدة، أو بذوات مبهرة، أو بأيٍ من معطيات الوقت، والناس، والحالات، والمجازات فإنها لا تغفر لك هذا الإيقاع بها بالانشغال الذي تفعله، أو تفتعله كي تغمر ما فيها دون أن يطفو، فهي قادرة على المكر بك في معادلة: كلما أعطيتها ستعطيك، وكلما أخذت منها فأنت تشحذها..
إنك في الحقيقة لا تملك زمام حركتها، ولا وجهة اتجاهها، إنها معجزة فيك، وليس لك منها إلا وجودها الخفي فيك، وغير الملموس منك..
فإلى أين تقودك ذاكرتك، ومتى تفعل بك مخاتلة، وعبثا؟!
إنها بعد أن يهدأ صخب جديدك، تعيد إليك ما استقر، تأتيك من أوديتها السحيقة خصبة تعطيك، ومن فضائها الشاسع غيمة ترويك، فهي أخصب من لحظتك التي طافت، وأعمق من جدولك الذي انقطع، وأوسع مدى مما يذهب إليه ظنك بها ..
ذاكرتك لا تنتهي، لا تعطب فيك إلا في حالة واحدة هي أن يتوقف استمرار الحياة فيك، حين تكون الذاكرة مستودع كل شيء هو أنت..!!