أ.د.عثمان بن صالح العامر
لا أعرف كيف وصل العرب إلى الحكم المطلق في باب الأولويات، ولكنهم حين جزموا بشكل قاطع لفلان من الناس أنه سابق للكل في هذه السجية أو تلك ظل ما قالوه طوال هذه السنوات أمراً مسلماً به لا يمكن لأحد مهما بلغ أن يلغيه أو يأتي بقول خلافه، والعجيب أنهم عندما ضربوا المثل إذا أرادوا المبالغة برجال خلد التاريخ أسماءهم فصاروا أعلاماً في هذه الخصال، فقالوا: (حلم من أحنف، وأجود من حاتم، وأبين من سحبان) لم يقل أحد منهم حتى الآن: أعقل من فلان، وهم بهذا الصنيع سائرون على قاعدة ذلك الأعرابي الذي قيل له: حِدّ لنا العقل، فقال: وكيف أحده ولَم أره كاملاً في أحد قط.
نعم الناس يختلفون في عقولهم ويتباينون في مداركهم وأفهامهم وملكاتهم، ويعرف ذلك ويستبين في المواقف وعند الأزمات، فمن متصرف حسب ما تمليه عليه عاطفته، ومن متوقف ومنتظر لما تئول إليه الأمور، ومن مبادر بروية وعقل، جامعاً بين الذكاء والخبرة، الثقة والتفاؤل، وقبل هذا وذاك متوكلاً على الله ومستعيناً به واثقاً بما عنده سبحانه وتعالى.
هناك في عالم اليوم من يمتدح الجهل، ويرى السلامة فيه، فهو - علم أو لم يعلم - يسير على خطى قول من قال: (ضعف العقل أمان من الغم، والدنيا ثمرتها السرور ولا سرور للعقلاء فيها).
ويتمثل - وهو في مقام الدفاع عن حاله الذي تلبسه من أخمص قدميه حتى مفرق رأسه - قول الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
كان الحسن إذا أخبر عن أحد بصلاح، قال: كيف عقله؟ ثم يقول: ما يتم دين امرئ حتى يتم عقله).
لقد صار العقل اليوم - في ظل غلاء قيمة وثمن الأفكار التي صارت لا وطن لها ولا دار بل سوقا مفتوحة خاضعة لتجاذب منحنى العرض والطلب - أقول صار العقل هذه النعمة والمنة الربانية العظيمة على الإنسان دون بقية المخلوقات محل اهتمام وعناية ورعاية من قبل الدول العظمى والجامعات العالمية ومراكز الدراسات والأبحاث المتخصصة التي تبحث عن أصحاب العقول في كل مكان وبكل وسيلة وتمنحهم الجنسيات وتعطيهم المغريات وتستدرجهم من حيث يعلمون أو أنهم لا يدرون، والأدهى والأمر أن حروباً قامت من أجل القضاء على عقول، أو تهجيرها وانتزاعها من أوطانها عنوة وبالأسماء للاستفادة منها في بلدان العالم الأول.
إن مما يسجل للمملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة الاحتفاء والاهتمام بهذا النوع من العقول، ومنحها مساحة كبيرة للاختراع والابتكار والتميز حتى صرنا نقارع العالم المتقدم في منجزاتنا الحضارية ولله الحمد والمنة، وما زال في بلادنا الغالية ثراء كبير لم ينقب عنه بعد، ففي القرى والبوادي نوابغ بالفطرة يحتاجون إلى الاكتشاف ومن ثم الرعاية من خلال برامج متخصصة بالموهوبين تتوافق وطبيعة البيئة التي نشؤوا فيها وتتدرج بهم في سلم التفكير العقلاني وصولاً للتميز المنشود، كما أن هناك فجوة بين التعليم العام والعالي في هذا الباب، إذ إن برامج الإثراء ليست ذات صبغة تكاملية كما هو الأصل بل منبت بعضها عن بعض للأسف الشديد، والنتيجة تعاظم الفقد، وضعف النتائج، وتلاشي التكوين الذي ظل سنوات في بناء متتابع عبر مراحل مدروسة ومقننة ومعروفة.
لقد ولى زمن الجهل وكذا التجاهل وصارت المنزلة الأسمى في المملكة العربية السعودية - حسب ما تتضمنه أدبيات رؤية المملكة 2030 - للعقلاء الذين يكدون أذهانهم ويمضون ساعات أيامهم داخل المعامل وفِي أروقة المراكز من أجل مملكة المستقبل، فصرنا نسمع ونرى ونفخر ونفاخر بعقول سعودية متميزة تغازل العالمية وتنافس على الأولويات وتتربع في الصدارة الدولية بجميع المحافل العلمية فهنئاً للوطن بالعقل السعودي المتقد، ودمت عزيزاً يا وطني وإلى لقاء والسلام.