د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
التشهير يعني الإعلام والإيضاح وعدم الستر، وعكسه التشفير وهو الإخفاء أو الاكتفاء بالترميز كأن تعلن من اسم الفرد أحرفه الأولى، أو تستعيض عن ذلك بوصف عام، كقولك: شخص، مواطن، وافد وما إلى ذلك. ويخلط البعض بين التشهير الذي يعني أن يعلن فرد أو جهة معلومات خاطئة مسيئة ومغرضة عن شخص ما بغير وجه حق بهدف تشويه سمعته، والإشهار وهو أن يُعلن اسم المتهم أو المدان في أمر قضائي. وجرى العرف في معظم القوانين العالمية أن يعلن اسم من تستدعيه العدالة كمشتبه أو متهم ويعد بريئًا حتى تثبت إدانته، فإذا ثبتت براءته قد يحصل على تعويض عما لحق من سمعته من تشويه وتشهر براءته بشكل لا يقبل اللبس، وإذا ما أدين أعلن اسمه والمعلومات كافة عنه.
نتكتم للأسف في بعض الأحيان على أسماء مدانين فعلاً في جرائم مختلفة بحجة الامتناع عن التشهير بهم مع أننا نوقع بهم عقوبات أخرى من سجن أو جلد أو غرامات مالية. نفعل ذلك بغض النظر عن جسامة الجرم الذي ارتكبوه. نتستر أحياناً على اسم طبيب مدان ارتكب خطأ طبياً أو أخلاقياً في حق مريض، أو مقاول أو مهندس غش الناس في مساكنهم، أو موظف أساء استخدام صلاحياته أو أخل بالأمانة أو سرق من المال العام. لا نذكر أسماء هؤلاء حتى ولو أدينوا ونشفر هوياتهم مع أنه ثبت جرمهم.
المشكلة هنا هو أن العامة عندما تجهل هوية الشخص الذي ارتكب الجرم يمكن أن تتعامل معه مستقبلاً، أو حتى ربما تُسند له وظيفة خاصة أو عامة بعد خيانته الأمانة. فإشهار اسم مرتكب الجريمة، في نظري، لا يعد تشهيرًا لا سيما إذا ثبتت إدانته. وهناك هيئات ولجان حكومية قضائية أعلنت بشفافية عن أسماء مذنبين مدانين فعلاً بعد أن ثبتت إدانتهم ونذكر هنا الهيئة العامة للحفاظ على المنافسة، أو اللجان القضائية في هيئة سوق المال. فلما لا نحدد موقفًا واحدًا من إشهار، وليس التشهير، بأسماء المدانين قضائيا؟ فعدم إشهار اسم الشخص المدان فردًا كأن، أو شخصية اعتبارية، والاكتفاء فقط بالتشفير قد يدخل المواطن في عملية تخمين عن هويته ويسهم في نشر إشاعات قد تطال أناساً أبرياء. وهذا حصل فعلاً في حالات كثيرة.
الحكم القضائي سواء كان الهدف منه العقاب والردع، أو الإصلاح والتهذيب لا بد أن يشتمل على ذكر اسم وهوية مرتكب الجريمة أو المخالفة وعلى وجه الخصوص تلك الجرائم الصريحة التي ترتكب في حق المجتمع ككل. وقد يتوجب علينا أن نعلن أيضًا اسم المشتبه بهم وهوياتهم لأن الاشتباه لا يأتي جزافًا ولا يحدث من فراغ وإنما لملابسات وأدلة معينة. وعندما يعلن عن اسم مشتبه به وتثبت براءته فهذا خير له من أن تبقى تهمة الاشتباه تحيط به، والشائعات تحوم حوله. والأمر بمجمله ضروري جدًا لنشر الثقافة العدلية في المجتمع وتعويده على فهم أسس الاشتباه والاتهام وثبوت التهمة.
ولنأخذ أمثلة بقيت حائرة ومحيرة في ذهن المجتمع مثل جرائم كبرى ارتكبت في شكل وجود مصانع لتزوير تواريخ الطعام، أو إعادة تعليبه وتغليفه، أو أنشطة جمع الفطائس والحيوانات النافقة وبيعها على المطاعم ليأكلها أفراد المجتمع. وآخر ما سمعنا وشاهدنا مداهمته -مؤخرًا- مصنع ضخم متكامل بمعداته كافة لإعادة تعليب الزيوت ثم بيعها للبناشر والورش، سلسلة متكاملة من التصنيع والتغليف والتسويق بحجم شركة كبيرة، ثم لا نسمع عمن استورد المصنع أو سمح بدخوله؟ لا نسمع عمن يديره أو يقف خلفه؟ فهذا لا يمكن أن يكون عمل عمالة وافدة فقط. وللمعلومية فقد تمت مداهمة مصانع مشابهة لإطارات السيارات، ومواد النظافة المنزلية، ومواد التجميل. وبما أنه لم يعلن عن أصحابها أو من يقفون خلفها استمرت هذه العمليات البشعة بشكل لا ينقطع ربما من الأفراد أو العصابات ذاتها.
شهرنا بمن تلاعب بسعر الرز، والمطاعم التي حاولت التلاعب بأسعار الوجبات اليومية مع أن الدجاجة تباع بـ9 ريالات ويشتريها المواطن من هذه المطاعم بـ40 ريالاً. فلا يمكن أن نستمر في نسب الجرائم الأخرى الأكبر والأخطر لمجهولين بحجة عدم جواز التشهير بهم!! فالتشهير شرعًا لا يشمل إعلان أسماء من ارتبكوا جرائم حقيقة بحق المجتمع، إنما هو إشهار قد يكون واجبًا، فتشفير هوياتهم قد يكون دافعًا لهم لمعاودة جرائمهم.