رمضان جريدي العنزي
الزمن لم يتغير، فرجب هو رجب، وشعبان هو شعبان، والخميس هو الخميس، والجمعة هي الجمعة، والليل هو الليل، والنهار هو النهار، الصيف هو الصيف، والشتاء هو الشتاء، والساعة هي الساعة، لكن الناس تغيروا كثيراً لم يعودوا كما كانوا، العلاقات الاجتماعية لم تعد حميمية، والمشاعر صارت باهتة، أصبح الناس لا يعرفون بعضهم سوى أنهم على قيد الحياة، صلة الإنسان بأخيه الإنسان وهنت بشكل لافت، والمشاعر أصبحت باردة كالجليد، النفاق زاد بشدة، والأقنعة أصبحت تجارة رابحة، الجحود عنوان كبير، والطمع شبح مخيف، والتوحد علامة، الأفكار غير الصالحة والماضوية الدفينة والنبش بالعتيق والتغني الأعمى به صار لها ترحيب وقبول ونداء، عكس الأفكار التنويرية والحضارية والتقدمية والتنموية والتطلعية والابتكارية صارت مرفوضة وغير مرحب بها، تهجر ولا تبتغي، الطائفية الرمادية، والعنصرية البغيضة، والمناطقية والأنا، وكره الآخر المختلف صار لها مريدون وحضور وأصوات، الأصحاب لم يعودوا حقيقة أصحاب، والصداقة صارت مصلحة، والجيران لم يعودوا ذلكم الجيران الذين يتقاسمون الخبزة، وكوز الماء، ومخدة القش، وفراش الحصير، ويسألون بلهفة عن بعضهم البعض، الأبواب صارت مغلقة، والنفور بان، والتوحد على النفس في البيت أصبح ظاهرة، الأنانية وحب الذات طغت على تصرفات الناس، لم يعد الإنسان يهتم إلا بنفسه، ولا شأن له بغيره، القيم والأخلاق والتعاملات الطيبة والمفردات الحسنة أخذت تتلاشى، صارت قيم المنفعة، والمصالح المادية هي من تحكم الناس، الشباب لم يعد يطربهم سوى السهر والهجولة والتسكع والتذمر، وكيف يبنون من الوهم قصورًا على رمل البحر سرعان ما تذوي مع أول موجة، دون أن يجتهدوا ويتعبوا، أو أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث والعمل، في الليل يسهرون، وفي النهار يغطون في نوم عميق، وحتى البنات صابهن هوس التنمر والتمرد والانفلات والخروج عن الدارج والعادة والمألوف، الأب انشغل بنفسه، سفراً واستراحات ومكشات، الاهتمام بالعائلة وتفقد أفرادها وشؤونها لم تعد ذا قيمة تذكر عنده، ولم تعد هي أمانته العظيمة المؤتمن عليها والمسؤول عنها، الأم هي الأخرى لم تعد شمعة البيت سراجه ونوره، اشتغلت على نفسها وعاشت عالمها الخاص، تسوقاً وزيارات وحضور أعراس وحفلات ومناسبات، حتى نست دورها كأم ومربية وحانية، الوجوه تغيرت، والأفكار تغيرت، والأدوار تبدلت، والعقول لم تعد تلك العقول، لقد شهدت غالبية الشياء والمبادئ والقيم انقلاباً بائنًا ومشهودًا، لست متشائمًا، وليس بي طيرة، ولا أشعر بالأسى والإحباط والسوداوية تجاه الحاضر، لكن الحياة الماضية كانت استثنائية وفريدة، الناس فيها مغايرون وتكتسيهم النضارة والبياض والبهاء، يعملون بجد، ويحبون بجد، ويجوبون الفيافي والقفار من أجل العيش الكريم والستر ومنفعة الأهل والسلامة، ونادراً ما يكرهون، وعلاقاتهم الاجتماعية زاهية، الطيبة وصفاء السجية والعفوية والتلقائية عناوين كبيرة للحياة، ما عندهم مكر ولا كيد ولا خداع، يبحثون عن الفضيلة، ويمقتون الرذيلة، وينادون على المحبة والإخاء، الآن نحن نعيش في زمن الغرائب والعجائب، زمن الحيرة والاحتيار، وافتقار المقاييس، والدهشة المدهشة، والتناقضات الكبيرة، والغموض والغرابة، والتقوقع على الذات والعزلة، زمن تغير فيه كل شيء، وانقلبت موازينة رأساً على عقب، المفاهيم فيه تغيرت، والأحمال صارت فيه ثقيلة، القلوب أصبحت فاترة، والمشاعر باهتة، والعلاقات يشوبها الخوف والتوجس والوجل والفزع، وازدواجية المعاير شبت عن الطوق ونمت، العواطف صارت مشحونة بالأضغان، والأخلاق أصبحت ضيقة وسريعة الانفجار، التعاملات قاسية، والآراء إن اختلفت أفسدت للود قضايا، القطيعة زادت، واللمة العائلية انحسرت، ولا أحد أصبح يتحمل الآخر أو يصبر عليه أو يحنو أو يربت على كتفه، والشك والظن والتأويل صارت الدأب والديدن، علينا أن نعترف بهذا التحول الكبير، والحال المعاش، والواقع الحقيقة، والإقرار الكامل بأن الزمن لم يتغير ولم يتبدل أو يتحول، بل الناس هم من تغيروا وتبدلوا وتحولوا، إنني في هذا المقام والمقال لا أعني عموم الناس كلهم، لكنني بكل أسف ومرارة أعني السواد الأعظم من الناس.