عبد الرحمن بن محمد السدحان
* لي مع معهد الإدارة العامة قصةٌ تستحق أن تُرْوَى، نشأتْ قبل نحو أربعين عامًا، حين أرسلتُ خطابًا من مقر بعثتي الدراسية بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية، إلى مدير معهد الإدارة العامة آنئذٍ، معالي الأستاذ فهد بن سعود الدغيثر - طيّب الله ثراه - قبل تخرجي من جامعة جنوب كاليفورنيا بدرجة البكالوريوس بنحو شهرين أو ثلاثة، أبثُّ فيه رغبتي بمنحي شرفَ الانتماء إلى ذلك المعهد بعد التخرج، بحجّةِ أنَّ المعهدَ ملتقى صفوة الخريجين، فهو منبر للإشباع الأكاديمي للإدارة من جهة، وهو من جهة أخرى، يتعامل مع مخرجَاتِها وتطبيقاتِها عمليًا عبر حراك التدريب والأبحاث نظريًا وميدانيًا!
***
* وقد ظننتُ يومئذٍ أن هذه المبادرة ستكون مخرجًا مقرونًا بالنجاح لي بدلاً من الاستغراق في الدراسة الأكاديمية النظرية حيث كنتُ، ناهيك بأنه سيكون لي شفيعًا للطموح الأكاديمي فيما بعد، لو شِئْتُ!
***
* بعد نحو أسبوعين تقريبًا من تاريخ رسالتي إلى معهد الإدارة العامة (فُوجئْتُ) بردّ من معالي مديره العام يرحب برغبتي في العمل في المعهد، والانضمام إلى الأسرة الأكاديمية فيه. ودعم ترحيبَه بدعوتي لزيارته بعد عودتي من أمريكا لإنهاء إجراءات التعيين. وكانت تلك الرسالة مشعل فرح أضاء في خاطري دروبًا من التفاؤل بغد واعد بالنجاح! ونتيجة لذلك أنهيتُ إجراءاتِ التخرج، وشرعت في التجهيز للعودة إلى أرض الوطن الغالي.
***
* عدت إلى المملكة ذات مساء من صيف عام 1967م، وقلبي يهتف بالفرح ترقبًا للغد الموعود، لكن فرحي لم يدم طويلاً ذلك المساء، إذ اصطحبني صديق إلى دعوة عشاء خاصة في منزل صديق آخر، وما هي سوى دقائق حتى انضممت إلى ثلة مباركة تربطني ببعضهم صداقاتٌ وُلدت في لوس أنجلوس!
***
* ما كدتُ أصلُ إلى مقر حفل العشاء وأستقرُّ في مقعدي حتى (غرّد) أحدُ الحضور الكرام بصوتٍ مسموع: (أين أنت يا عبدالرحمن؟) ذُهلتُ للسؤال.. فلم أردّ لحظتئذٍ، ثم أعاد السؤال بصوت خافت بعد أن اقتربَ مني قائلاً بعد أن قدَّم نفسه: (إن معالي الشيخ حسن المشاري يسألُ عنك ويَستعجلُ وصُولَك)! ذُهلتُ للسؤال وسبَبهِ، فقلت بنبرةٍ خافتة: (إن غدًا لناظره قريبٌ) ولم أزدْ!
* تركتُ مقرَّ حفلَ العشاء شاكرًا لصاحب الدعوة حفاوتَه، وذهبت مباشرةً إلى بيت سيدي الوالد -رحمه الله.
***
* وقد أخبرني بعد ذلك مَنْ أخبرني أن أحدَ الفُضَلاء من حاضري حفلَ العشَاء قد أشادَ بي لدى معالي الوزير حسن المشاري -رحمه الله- قبل وصولي إلى الرياض بأيام، فاستقرت في خاطر معاليه الرغبةُ في استقطابي، للعمل في مكتب معاليه بالوزارة، ثم صدر لاحقًا قرارٌ بتَعييني في مكتب معاليه بعد إخلاء طرفي رسميًا من معالي وزير المعارف، معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ -رحمه الله- وبدَا وكأن الأمر بات محسُومًا ولا حيلةَ لي في نقضِه!
***
* ذهبت صباح اليوم التالي إلى معهد الإدارة العامة، حيث شرُفتُ بلقَاء مديره العام معالي الأستاذ فهد الدغيثر -رحمه الله- لأول مرة، وكان كريمًا في ترحيبه واستقباله، وطرحتُ بين يديه ما ورد إلى سمعي ليلة البارحة، فكان ردُّه أن مكاني محفوظ في المعهد، لكن لا حيلةَ لمعاليه فيما آل إليه أمري، وأن عليّ أن أبذل من الجهد ما يمكنني من الفَكَاك من وظيفةٍ لم أسعَ إليها ولا رغبةَ لي فيها!
***
* خرجت من لقائي في المعهد أتدبّرُ الخُطَى اللازمةَ لفكّ ارتباطي بوظيفة وزارة الزراعة!
* حاولتُ أكثر من مرة مباشرةً وعبر (وسطاء) كرام، إقناعَ معالي وزير الزراعة، الشيخ حسن المشاري -رحمه الله- إخلاءَ طرفي من العمل بوزارته، كي أحقّقَ رغْبتي في العمل بمعهد الإدارة العامة، لكن محاولاتي باءت بالفَشَل.
* وبعد وصولي إلى الرياض بنحو شهرين تقريبًا، قررت تغيير مساري المتعثر نحو وظيفة معهد الإدارة العامة، والسعي بدلاً من ذلك للعودة إلى لوس أنجلوس، لإتمام مشوار الماجستير، على مدى عامين آخريْن، وبذلك أنْجُو بنفسي من شرنقة الحرج بين أكثر من جهة للأسباب آنفة الذكر!
***
* وترتيبًا لما سبق، قُمتُ بزيارة معالي وزير المعارف وقتئذٍ الشيخ حسن آل الشيخ -رحمه الله- ووضعت أمام معاليه رؤية كاملة لما انتهت إليه عبر المساعي (المكوكية) بين وزارة الزراعة، ومعهد الإدارة العامة، وأن الخرُوجَ من هذه الأزمة يتلخص في العودة إلى جامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلوس لإكمال مشواري الأكاديمي بها، وتأجيل موعدي مع الوظيفة حتى وقتٍ لاحق، وخُيّل إليّ أن في هذا مخْرجًا منطقيًا وعقلانيًا ويَئِدُ الإحراجَ لي مع كل الأطراف، ويبْقَى الخيارُ الأول والأخير لي، وقد رحب معالي الوزير آل الشيخ -رحمه الله- بطلبي، وبعد يومين تقريبًا كنتُ على متن طائرة إلى لندن فنيويورك، ومنها إلى لوس أنجلوس لاستئناف دراستي هناك. وكنت قد مهدت لذلك سلفًا خوفًا من تعثُّرِ جهودي أكاديميًا بالحصول على قبول من الجامعة التي عدت إليها للدراسة العليا بها، والحمد لله من قبل ومن بعد.