يوسف المحيميد
كلما رأيت ما يحدث في العالم المادي من دمار وانتهاك للقيم والأخلاق، وسقوط لها، في أكثر الأمم تحضرًا وتقدمًا، استعدت مواقف الكتَّاب والمثقفين أيام الثورة الصناعية، والتحولات الكبرى في تاريخ الإنسان، وكيف قاوموا تشيؤ الإنسان من خلال ما يحدث في العالم، من قفزات مخيفة آنذاك، كيف حاولوا الكشف عما يحدث في مستقبل الإنسانية، ليس بالضرورة كلها مواقف صحيحة بدرجة كاملة، لكنها سجلت موقفاً ما، ولننظر مثلاً إلى الموقف من التصاميم للعمارة والفنون والتماثيل، فعلى سبيل المثال، عند إنشاء برج إيفل، حدثت ثورة لدى المثقفين والأدباء حول هذا البرج البشع، إلى درجة أن بعضهم غادر باريس احتجاجاً، بينما الأديب جي موبوسانت الذي شعر بغصة من هذا البرج، قرر تناول طعامه يوميًا في الطابق الثاني من البرج، لأنه المكان الوحيد في باريس الذي لا يراه منه، وهذا موقف من برج أصبح أحد أبرز معالم باريس، والعالم أيضًا.
أما برنارد شو، فقد سجل موقفاً آخر تجاه تمثال الحرية في الولايات المتحدة الأمريكية، حينما صرح قائلاً، إن الأمم تصنع تماثيل كبيرة للأشياء التي تفتقدها أكثر، وهو ينتقد الحرية الأمريكية المزعومة، في موقف ليس غريبًا على الأديب الآيرلندي الكبير.
كثير من الأدباء لدينا زمن السبعينيات انتقدوا القفزات العمرانية، حينما انتشرت البنايات الخرسانية، وخرجوا من بيوت الطين، وسجلوا مواقفهم في كثير من إبداعاتهم القصصية والتشكيلية وغيرها، فأتذكر على سبيل المثال، لا الحصر، قصص الراحلين عبدالعزيز مشري، وصالح الأشقر، وعبدالله بامحرز، الذي كتب سلسلة قصص منشورة بعنوان «حقول الإسمنت» وغيرهم كثير ممن كتب متغنياً بأيام القرى وبساطتها، في موقف واضح وحاسم من المدنية والتطور المعماري الذي جلب معه سلوكيات إنسانية جديدة، تتسم معظمها بالطابع المادي اللا إنساني، هكذا كان المثقفون والأدباء في مواقفهم مما يحدث، فكيف ينظرون الآن إلى هذا العصر الرقمي بامتياز، خاصة وقد كتب معظمهم قبل ثلاثة عقود وأكثر، عن الإنسان وقد أصبح مجرد رقم عابر في آلة ضخمة تلتهم إنسانيته؟