محمد آل الشيخ
أطلع هذه الأيام على تراث مصر الفكري في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والذي كان بحق يُمثل فترة ذهبية في كل المجالات المعرفية؛ ومن ضمن تلك المحاولات الجادة والجريئة والعقلانية التي بدأها الإمام الشيخ محمد عبده -رحمه الله- كان قاسم أمين، وعلي مبارك، ومحمد رشيد رضا، وطه حسين، والشيخ علي عبدالرازق، وسعد زغلول، وآخرين غيرهم.
وفي تقديري أن أهمهم الشيخ علي عبدالرازق وكتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم)، الذي كان أول من دعا متكئاً على الأدلة والشواهد من الكتاب والسنّة وتاريخ السيرة النبوية الذي وصلنا بأن إقحام الدين والحلال والحرام في السياسة كان ممارسة وصولية انتهازية، أراد منها من دعوا إليها، أو نَظّروا لها، أن يُضفوا (قداسة دينية) على ما يدعو إليه طرحهم السياسي، للوصول إلى السلطة.
غير أن هذا الكتاب ذو التأصيل الفقهي المحكم، في ما يطرح، لاقى رفضاً عنيفاً من قبل المستفيدين من أسلمة السياسة، وأهم هؤلاء حينها الملك فؤاد ملك مصر، إضافة طبعاً إلى المستفيدين من تسييس الدين، من فقهاء ونفعيين؛ فقد (طمع) الملك فؤاد بمنصب الخلافة الذي سقط في تركيا، الأمر الذي جعله ومعه حاشيته، يقفون بعنف في وجه الشيخ علي عبدالرازق وكتابه موقفاً عدائياً، واستخدموا لتحقيق غايتهم البراغماتية هذه كل الوسائل، حتى وصل بهم الأمر إلى الإيعاز لمشيخة الأزهر بسحب شهاداته الأكاديمية الأزهرية، والتي كانت تُسمى (العالِمية) -بكسر اللام- إضافة إلى أن ديوان الملك فؤاد كان يُحرض على الرد عليه، وتسفيه ما انتهى إليه في كتابه ما جعلهم يسحبون الكتاب ويمنعونه من التداول.
كل ذلك لم يكن من منطلق معرفي علمي وإنما كان الهدف سياسياً انتهازياً محضاً لرغبة ملك مصر حينها لتولي منصب الخلافة بعد سقوط خلافة بني عثمان المفبركة.
الآن، وبعد مرور قرابة التسعين سنةً على صدور ذلك الكتاب، نقرأه بتجرد، ونقرأ حججه، وحيثياته، وشواهده، وأدلته، فلا نجد فيه إلا الصواب بعينه؛ بل ويمكن القول بعلمية إن هذا الكتاب القيم لو لم يُحارب، ولم تتصدى له آنذاك قوى الانتهازية والوصولية متحالفة مع الرجعية، لما عانينا بعد ذلك من أولئك المتأسلمين السياسيين، الذين رأينا بأعيننا نتائج ما أوصلوا بلاد العرب، وبعض البلدان الإسلامية إليه من دمار وتخلف.
الإسلام كما قال علي عبدالرازق ما هو إلا عبادة روحانية، وتوحيد لله -جل وعلا- وعبادات قوامها أركان الإسلام الخمسة، وحض على المُثل العليا والأخلاق الحميدة، وبناء مجتمع مسلم متراحم متلاحم كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، أما السياسيون الذين يقومون بمهمة السيادة والريادة وقيادة الدول، لدرء المفاسد عنه وجلب المصالح إليه حيث كانت فهذه مهمة رجال السياسة وليس رجال الدين؛ وهذا بالضبط ما أوصى به رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وسار عليه من أتوا بعده أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، رضوان الله عليهم أجمعين.. ولم يرو عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قد شرع على وجه التحديد منهجاً سياسيا ثابتاً، اللهم إلا تحري العدل، وعدم الخروج على الإمام، ما أقام فيهم الصلاة، ولم يأمر بكفر بوحي عليه من الله برهان واضح.
لذلك فإن دعوى الرئاسة السياسية أو سمها (الخلافة) أو الإمامة، أو السلطنة، أو الإمارة أو المُلك، متروكة لمن تولى أمر المسلمين، والشرط الأول عدم تعطيل العبادات وعدم منعهم من أدائها، ومن ثم تحري مصالح الناس، والعدل بينهم والإحسان إليهم، أما ما عدا ذلك فمتروك لاجتهادات ولي أمرهم، لا يشاركه في سلطاته أحد، إلا إذا أوكل لأحد، أو لمجموعة، القيام بهذه المهام، عندها يصبح الوكيل أو الوكلاء، في محل ولي الأمر، لا يجوز منازعته فيما ولّي عليه.
هذه بالتحديد الخطوط العريضة التي أمر بها الله -جل شأنه-، وأوصى بها نبيه أصحابه؛ وأما الإضافات، ولي أعناق الشواهد والأدلة، التي ربما وضعها بعض الفقهاء اجتهاداً منهم،، وسموها (السياسة الشرعية)، فلسنا معنيين بها إلا على سبيل الاستنارة وتلمس الوسائل إلى العدل، الذي هو يتغير مع تغير الزمان والمكان.. فالسياسة كائن متطور متغير، فما يصلح لزمن السلف ليس بالضرورة أن يصلح لزماننا، وهذا ما نص عليه الرسول عندما تراجع عليه الصلاة والسلام عن نهيه (تأبير) النخل، بقوله: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ومقولته تلك قاعدة صالحة لكل أمرٍ دنيوي، ولكل زمان ومكان.
إلى اللقاء،،،